ثم تساءلنا عن السبب الذي جعل علماء القرن الثاني يغفلون ذكر مصادرهم المدونة إذا كانوا قد أخذوا عن الصحف حقًّا. وقد وجدنا جواب ذلك في هذه النصوص والأخبار الكثيرة التي أوردناها، والتي تدل على أن القوم آنذاك كانوا يضعفون كل من يأخذ عن صحيفة أو ينقل من كتاب، وكانوا يلمزونه ويدعونه صحفيًّا، فكان لابد إذن لهذا العالم من أن يأخذ علمه من مجلس العلماء الشيوخ. وحين وصفنا هذه المجالس وضحنا معنى الرواية الأدبية، وقلنا إن الرواية كانت طريقة علمية متكاملة تقوم على دعامتين: الكتاب والسماع. فقد كان العالم الحق الجدير بالثقة هو الذي يتصل بالعلماء من ذوي السن، فيحضر مجالسهم ويلازمهم ويستمع إليهم ويأخذ عنهم، والكتاب في كل ذلك، أو في أكثره، هو الوسيلة أو الأداة: يقرؤه على شيخه، أو يستمع إلى بعض من يقرؤه، وقد تكون في يده نسخة أخرى من الكتاب يتابع قراءة القارئ، والشيخ يستمع: يصحح الخطأ، ويشرح الغريب، ويذكر من وجوه الخلاف في الألفاظ ما بلغ إليه علمه، ويتحدث عما حول النص من جو تاريخي، وقد يقوده اللفظ أو الخبر إلى لفظ في بيت آخر. أو إلى خبر في حادثة أخرى، فيستطرد، ثم يعود إلى حيث كان. ثم إذا بلغ هذا المتعلم من العلم مبلغًا يتيح له أن يجلس منه المتعلمون مجلسه من أولئك العلماء، لم يذكر الصحيفة التي أخذ منها أو الكتاب، لئلا يتوهم فيه أنه صحفي اكتفى بالأخذ عن الصحف وإنما أسند ما يلقيه من العلم إلى شيوخه، فيقول: حدثنا فلان، وأخبرنا فلان، وسمعت فلانًا يقول. وهذه الصيغ المختلفة للتحديث موهمة أنها كانت رواية شفهية، وأن مجلس العلم كان كله حديثًا لا كتاب فيه، ولكن الأمر على غير ذلك، فإن هذه الصيغ كلها إنما تدل على ما ذكرناه من حديث العالم الشيخ في مجلسه، والمتعلمون والعلماء من حوله يقرءون أو يستمعون إلى ما يقرأ، والشيخ العالم يشرح، ثم أوردنا أخبارًا وروايات كثيرة تدل على أن مجالس العلم كانت