ومهدنا لحديثنا بقول عمر بن الخطاب:"كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"، وتعقيب محمد بن سلام عليه بقوله:"فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار؛ راجعوا رواية الشعر، فلم يئولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير".
وقلنا إن كلام ابن سلام هذا ثلاثة أشطر: آخرها حق، وموسطها باطل، وأولها يحتاج إلى فضل بيان يوضحه. أما الحق الذي لا مرية فيه فقوله:"فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير". وقد فصلنا وجه الحق فيه. وأما الباطل الذي لم نعد نشك في بطلانه وفساده فهو هذا التعميم الواسع في قوله:"فلم يئولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب". ولم نكتف بالتدليل على بطلان ذلك بما أوردناه في البابين الأولين من حديث مفصل، وإنما جمعنا من كتاب ابن سلام نفسه نصوصًا تنقض قوله هذا، أو -على الأقل- تضيق ما فيه من تعميم واسع. وأما الشطر الثالث الذي يحتاج إلى فضل بيان يوضحه فهو قوله:"فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر ... وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل". وفصلنا الرد على ذلك باستقراء تاريخي تتبعنا فيه حياة الرواية عند القوم، مبتدئين بالمعالم الواضحة في منتصف القرن الثاني الهجري، ومتدرجين فيها إلى الوراء حتى وصلنا إلى أقصى ما استطعنا الوصول إليه من معالم حياة الرواية الأدبية.
فجمعنا من الروايات والأخبار ما يدل عل أن القوم في القرن الأول الهجري لم يكونوا يكتفون برواية الشعر الجاهلي وإنشاده في المجالس والمحافل، وإنما كانوا