الواسعة بشعرهم، وذلك بالاطلاع الواسع على ما سبق عصره من جهود الرواة في حفظ الشعر وتدوينه، وتكون طريقة الدرس هي الرواية الأدبية بدعامتيها: الكتاب، والسماع. وقلنا إن هذه الطبقة من الرواية العلماء كانت تجمع ما استطاعت جمعه من الشعر الجاهلي من الشيوخ المختلفين، ومن أفواه الرواة من الأعراب، ومن بعض الصحف المدونة ثم تدرسه، وتمحصه، وتفحصه، وتميز صحيحه من فاسده، والثابت النسبة من المشكوك فيه، وتنتهي من ذلك إلى تسجيل ما ترجح لديها صحته في نسخة خاصة تصبح هي رواية ذلك الشيخ الراوية العالم، ينقلها عنه تلاميذه وينسبونها إليه. وذكرنا أن هذه الطبقة من الراوة العلماء -بهذا التعريف الذي قدمناه والتحديد الذي قيدناها به- لم تكن موجودة فيما يبدو قبل مطلع القرن الثاني الهجري، وربما كان أول شيوخها الذين مهدوا الطريق لمن تبعهم فكانوا هم الرواد السابقين: أبو عمرو بن العلاء "المتوفى سنة ١٥٤" وحماد الرواية "المتوفى سنة ١٥٦". ومن هنا كان قول ابن سلام "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حماد الراوية"، ومن هنا أيضًا قالوا:"كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه".
وخصصنا آخر فصول هذا الباب بالحديث عن الإسناد في الرواية الأدبية، وقابلنا بينه بين الإسناد في الحديث، وشرحنا سبب التزام السند في رواية الحديث والتحلل منه أحيانًا في رواية الشعر والأخبار. ثم عرضنا أمثلة من الأخبار المسندة التي يرتفع إسنادها إلى العصر الجاهلي بل إلى الشعراء الجاهليين أنفسهم؛ ونماذج أخرى يسند فيه العلماء الرواة من الطبقة الأولى إلى من سبقهم وكان فهيم من أدرك الجاهلية. ثم قلنا إن الإسناد في الرواية الأدبية قد أصبح في الغالب قاعدة عامة بعد القرن الثاني الهجري، وأنه كان ينتهي إلى شيخ من شيوخ الطبقة الأولى من العلماء الرواة، وأما هؤلاء العلماء الرواة من الطبقة الأولى فلم يكونوا في الغالب يُسندون إلى من قبلهم، مع وجود الإسناد نفسه مما مثلنا له بالشواهد والأمثلة.