تحدثنا في الفصل الرابع عن الشعر الجاهلي في غير الدواوين، فاسقرأناه في بعض كتب التفسير والحديث، واللغة والنحو، والتاريخ والمغازي، وكتب الأدب العامة.
وانتهينا من هذا الباب إلى أمرين:
الأول: أن هذه الكتب التي ذكرناها في الفصل الأخير -على كثرة ما فيها من الشعر الجاهلي الصحيح- ليست مصدرًا من مصادر هذا الشعر، وذلك لأن مؤلفيها لم يقصدوا إلى أن يجعلوها مصدرًا يستقي منه الباحثون شعر الشاعر، ولم يتخذوا من الشعر الجالهي هدفًا لهم: يجمعونه ويدرسونه ويصححونه، وإنما اتخذوا من الشعر وسيلة يتوسلون بها إلى الاستشهاد به أو التمثل أو الاحتجاج أو تزيين ما يوردون من قصص وأخبار. وقد درسنا هذه الكتب دراسة مفصلة واستخرجنا منها مناهج مؤلفيها في إيراد الشعر الجاهلي بحيث انتهينا إلى هذه النتيجة.
والثاني: أن مصادر الشعر الجاهلي هو الدواوين نفسها، وكتب المختارات الموثوق بروايتها، ولا يعنينا من الدواوين إلا المروية ذات الإسناد إلى عالم رواية. وقد وجدناها على ضربين:
ضرب تستقل فيه رواية مفردة قائمة بذاتها: كرواية الأصمعي وحده أو المفضل وحده.
وضرب تجتمع فيه روايات مختلفة لعلماء من مدرسة واحدة أو من المدرستين معًا، كتلك الدواوين التي جمعها علماء الطبقة الثانية وعلماء الطبقة الثالثة، فأوردوا فيها روايات متعددة، ولكنهم كانوا ينصون على أن هذه القصيدة من رواية الأصمعي وأن تلك من رواية المفضل، وأن فلانًا انفرد برواية هذا الشعر أو ذلك، أو أنه قد دفع هذه القصيدة أو أنكر تلك. بل لقد نصوا على الاختلاف في رواية الأبيات والألفاظ. والدارس المتتبع يستطيع ببعض الجهد والعناء أن يجرد من هذه الروايات المجتمعة روايات منفردة قائمة بذاتها ترجع، كالضرب الأول، إلى عالم من الطبقة الأولى من الرواة، وخاصة الأصمعي والمفضل.