للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

العالم النصراني، أو بمصالح خلقية واجتماعية كانت تقتضي البقاء ولو بالاسم على نظام ديني يؤلف بين أفراد الأمة ويحفظها من الفوضى، حتى افتضحوا في الأخير وصعب الجمع بينهما بسرعة سير الحضارة المادية، وتخلف الدين والتقاليد وعجزها عن مسايرتها وما في الجمع بينهما من متاعب وضياع للوقت وتكلف هم في غني عنه، فطرحوا الحشمة ورموا برقع النفاق.

جنود المادية ودعاتها:

ونهض الكتاب والمؤلفون والأدباء والمعلمون والاجتماعيون والسياسيون في كل ناحية من نواحي أوربا ينفخون صور المادية، وينفثون بأقلامهم سمومها في عقل الجمهور وقلبه، ويفسرون الأخلاق تفسيراً مادياً، تارة ينشرون الفلسفة النفعية، وطوراً فلسفة اللذة الأبيقورية.

والسياسيون أمثال ميكيافيلي الفلورنسي (١٤٦٩ - ١٥٢٧ م) دعوا من قبل إلى فصل الدين عن السياسة، وتقسيم الأخلاق إلى شخصية واجتماعية، وقرروا أن الدين - إذا كان لابد منه - قضية شخصية لا ينبغي أن تتدخل في أمور السياسة والدولة، وأن الدولة عندهم أعز وأهم من كل شيء، وأن النصرانية إنما موضوعها الحياة الأخروية، وأن المتدينين والصالحين لا يفيد وجودهم الدولة، وإن كان يفيد الكنيسة، لأنهم يتقيدون بأحكام الدين، ولأنهم لا يستطيعون أن يحيدوا عن أحكام الدين ومبادئ الأخلاق إذا اقتضت المصلحة غير ذلك، وأن الملوك والأمراء يجب عليهم أن يتخلقوا بأخلاق الثعالب، ولا يحتشموا من نقض العهود والكذب والخيانة والغش والنفاق إذا كان في ذلك أدنى مصلحة للدولة إلى غير ذلك، ونجحت هذه الدعوة وساعدتها عوامل كثيرة من الوطنية والقومية التي خلفت الديانة القديمة.

وأحدث الأدباء والمؤلفون وأصحاب البراعة والقريحة والذكاء، خصوصاً في ثورة فرنسا وبعدها، الثورة على الأخلاق القديمة، والنظم الاجتماعية، وزينوا للناس الإثم، ونشروا

دعوة الإباحة، وإطلاق الطبائع من كل قيد، والفرد من كل مسئولية، ودعوا إلى التهام الحياة البهيمية، وإرضاء الشهوات، وانتهاب المسرات، واستعجال الطيبات، وغلوا وأسرفوا في تقدير قيمة هذه الحياة وجحدوا كل شيء سوى اللذة العاجلة والنفع المادة الظاهر المحسوس

<<  <   >  >>