للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فهذا هو - كما ترى - التصوف المادي الغربي، وهذه هي فلسفة وحدة الوجود وحدة الاقتصاد، ولما كان الشرقيون إنما يغلبهم الروح الديني والتأله نفى المتألهون منهم والمغلوبون وجود كل شيء سوى الله، وهتفوا في سكرهم وغلبة الحال عليهم: لا موجود إلا الله، ولما كان المفكرون الأوربيون إنما تغلبهم المادية نفوا وجود كل شيء سوى الناحية الاقتصادية وهتفوا: لا موجود إلا البطن والمعدة. إن صوفية الشرق كانوا يرون الإنسان ظلاً ربانياً، أما الماديون في الغرب فلا يرونه إلا وجوداً بهيمياً حيوانياً.

نظرية دارون وتأثيرها في الأفكار والحضارة:

وساعدهم في وجهة نظرهم هذه في جميع مسائل الإنسان وزاد الطين بلة، النظرية التي ظهرت في القرن التاسع عشر عن ارتقاء الإنسان، وكونه حيواناً مترقياً عما دونه من

الحيوانات، لم يزل يجتاز بمرحلة بعد مرحلة في رحلته النوعية التي استغرقت ألوفاً من السنين ولم يزل ينتقل من طور حيوان إلى طور آخر، من أميبا (Amoeba) إلى قرد ومن قرد إلى إنسان حتى بلغ كماله النوعي، وزعيم هذه النظرية وبطلها دارون الذي ظهر كتابه أصل الأنواع (Origin of species) سنة ١٨٥٩ م فكان حديث النوادي والمجامع والمدارس وشغل الناس الشاغل، وكانت هذه النظرية اتجاهاً جديداً لم يسبق في المسائل البشرية وما يتعلق بها، تقلب تيار الفكر وتصرف نظر الإنسان في الاستعلام والاستهداء في مسائله وفي تاريخه من الإنسان إلى الحيوان، وتجعله يعتقد أن هذا الكون سائر بغير عناية إلهية، وبغير أن تتداخل فيه قوة غير طبيعة، وأن لا علة في الكون سوى السنن الطبيعية، وأن الموجودات ترتقي من مراتب الحياة الأولى إلى مراتبها العليا بعمل فطري تدريجي عار من العقل والحكمة، وأن الإنسان وسائر أنواع الحيوان ليس من صنع صانع حكيم بل هو نتيجة نواميس طبيعية انتهى بها التنازع للبقاء وناموس بقاء الأصلح والانتخاب الطبعي الذي هو سائر في الكون إلى إنسان ناطق ذي شعور.

إن مناقضة هذه النظرية للدين والعقل في المبادئ والغايات والنتائج الفكرية والخلقية وآثارها العملية واضحة، بل كان هذا ديناً جديداً يهدم الدين القديم من الأساس ويحل محله، فلا غرابة إذاً اضطرب لها رجال الدين وحسبوا لها كل حساب، وخافوا على مصير الدين في أوروبا.

<<  <   >  >>