للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وتظهر له حقيقة قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ

الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} ولم يلق في شرحها وتعليلها ما لقيه المفسرون الذين لم يشاهدوا هذا النوع من صعوبة.

داء هذا العصر الذي لا ينجح فيه الدواء ولا يؤثر فيه العلاج هو الاستغناء التام عن الدين، ولم يلق رجال الدعوة الدينية من العنت والشدة في أحط أدوار الفسق والفجور وفي أحلك عهود المعصية والغفلة، ما يلاقونه في دعوة هؤلاء الذين لزموا الإعراض التام في هذه المسائل (الكلامية) فلا تعنيهم سلباً ولا إيجاباً {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} .

وقد فطن لهذا الفرق الجوهري بين النفسية القديمة والجديدة أحد كبار معلمي الفلسفة وعلم النفس في إحدى جامعات أوربا الكبرى وشرحه في عبارة وجيزة. قال س م جود:

((ثارت في قديم الزمن شكوك واعتراضات وأسئلة واستفسارات حول الدين، لم يطمئن بعض أصحابها ولم يرتاحوا إلى جواب مقنع، ولكن مما يمتاز به هذا الجيل أنه لا تزعجه الأسئلة رأساً، ولا تحيك في صدره ولا تنشأ في هذا العصر أصلاً)) .

زوال العاطفة الدينية:

لما طغى بحر المادية في العالم الإسلام في العهد الأخير وفاض، كون رجال الدين جزراً صغيرة في بحر المادية المحيط، يلجأ إليها الفارون إلى الله والمتبرمون من الحياة المادية والغفلة، كان فيها رجال هم كمنارات النور في البحر الظلمات يربون الناس التربية الدينية والخلقية، ويزكون أنفسهم ويصقلون قلوبهم.

وكنت ترى في العالم الإسلامي حركة مستمرة إلى هذه الجزر؛ فترى قوافل لرواد الروحانية ومنتجعي التربية الدينية غادية رائحة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى شمال العالم الإسلامي إلى أقصى جنوبه، متخطية الثغور السياسية مجتازة العقبات الجغرافية، فترى هذه الجزر مستعمرات دينية، قد أمحت فيها الفروق الجنسية والوطنية، وترى متحفاً إنسانياً قد اجتمع فيه الشرقي مع الغربي والبخاري مع المغربي والأناضولي مع الأندنوسي، قد فروا بدينهم من الفتن ورموا

<<  <   >  >>