والعشي يريدون وجهه ويتلقون التربية الدينية ثم ينبثون في أنحاء العالم دعاة مصلحين ومعلمين مرشدين، يلتقطون نصيب الله من بين نصيب الشيطان ويحيون أرضاً مواتاً من القلوب، ويبذرون فيها بذور الدين.
وكذلك لم تزل في جنب أقوى الدول وأوسعها دول روحية يفوق سلطانها الروحي سلطان المادي، فيها رجال تأتيهم الدنيا راغمة ويأتيهم الملوك والأمراء صاغرين، ولهم نظام كنظام الدول ينصبون ويقرون وينقلون ويستخلفون، ولهم ((قناصل وسفراء)) في كل دولة مادية وكأن خارطة العالم الإسلامي بين أيديهم، فإذا خلا ثغر من ثغور الإسلام نصبوا فيه مرابطاً دينياً يحفظه من عادية الغفلة والمعصية، ويحرسه من غاشية الجهل والطغيان (١) .
وكانت هذه الدول الروحية مستقلة في إدارتها ونظامها الداخلي، لا يتداخل فيها الملوك والأمراء ولا تؤثر فيها التقلبات السياسية والحوادث المحلية؛ ولضرب لذلك مثلاً بالمستعمرة الروحية المعروفة بغياث فور، التي أنشأها الشيخ نظام الدين البداوني الهندي ((م ٧٢٥ هـ)) في نفس عاصمة الهند وقد عاصر الشيخ ثمانية من الملوك الجبابرة ((من غياث الدين بلبن ٦٦٤ - ٦٨٦ إلى غياث الدين تغلق ٧٢٠ - ٧٢٥)) وحافظت على استقلالها التام من غير أن تمسها يد الملوك، وكنت ترى فيها رجالاً من سنجر في إيران إلى رجال من أوده في شرق الهند.
وقد كان لهذه المراكز ولأصحابها الفقراء من المهابة والحشمة والاحترام الفائق ما قد يحسدهم عليه أكبر ملوك العالم، وقد يكون هذا سبب الوحشة بينهم، وما ذاك إلا لإقبال الناس على رجال الدين واحتفائهم والخضوع للسلطان الروحي، فكان السيد آدم البنوري الهندي (م ١٠٥٣ هـ) دفين البقيع يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل، ويمشي في ركابه ألوف الرجال ومئات من العلماء، ولما دخل السيد
(١) حديث الشيخ الصالح السيد علي الهجويري دفين لاهور أن شيخه أمره بالرحلة إلى لاهور والإقامة فيها، فاعتذر بأن هناك زميله الشيخ حسين الزنجاني فلا لزوم لذهابه، فقال: لا بد أن تذهب وتقيم بها: قال: فشددت رحلي وامتثلت أمر الشيخ ووصلت إلى لاهور في الليل وقد غلقت أبوابها فبت ليلتي خارج السور. ولما أصبحت وفتح باب السور إذا بالناس يحملون جنازة الشيخ حسين، فعرفت سر أمر الشيخ ودخلت البلد. وخلفته في عمله دعاء الخلق إلى الله (كشف المحجوب للهجويري)