وليعرف أن هذا كله في زمان لم تحدث فيه طرق النقل الحديثة فكان كله مشياً على الأقدام وسفراً في القوافل.
وتتجلى المناظر الأخيرة لهذا العهد الراحل في تاريخ مصلح الهند الكبير والمجاهد الشهير السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد (١٢٤٦ هـ) فإذا قرأت تاريخه وجولاته في الهند لأجل بث دعوته إلى التوحيد واتباع السنة والجهاد رأيت ألوفاً يتوبون من الذنوب والآثام والشرك والمحدثات، حتى تقفر الحانات وتغص المساجد، ويتسابقون في دعوته هو ورفقته الذين
يعدون بالمئات إلى بيوتهم وصنع الولائم لهم، ويستهينون في سبيل ذلك بالأموال، ويسترخصون كل عزيز وغال حتى يتقارعوا بينهم أيهم يبدأ وأيهم يتقدم.
وترى في المسلمين شهامة في سبيل الدين وعلو همة وسماحة نفس وأريحية لا تعهدها بعد ذلك، فلما خرج السيد للحج عام ١٢٣٦ هـ ورفقته أكثر من سبعمائة رجل ضيف المسلمون هذا الركب في كل محل يمر به، من راي بريلي مسقط رأسه إلى كلكته حيث ركبوا السفن، ولما نزل بالله آباد ضيَّفه الشيخ غلام علي، وأقام هذا الركب ضيفاً عليه خمسة عشر يوماً، واجتمع الناس من القرى والضواحي وكلهم يأكلون على مائدة الشيخ الطعام الفاخر، هذا عدا الهدايا التي أهداها إلى أهل الركب والكسوة والزاد الذي قدمه، وفي أثناء الرجوع لما حلت القافلة قريباً من مدينة مرشد آباد في طريقها من كلكته إلى راي بريلي قام ديوان غلام مرتضى بضيافتهم وأعلن في السوق أن كل من يشتري من أهل القافلة أو يستأجر منهم أهل الصناعة فهو يؤدي الثمن من عنده، وكلمه السيد في هذا فقال: حسبي من الفخر والشكر أني أقوم بخدمة الحجاج.
وترى في الناس رقة في القلوب وانقياداً للحق وخضوعاً للشرع، فقد تشرف بالبيعة والتوبة مئات ألوف من المسلمين في هذا السفر، وكان الناس ينهالون من كل صقع ويدخلون في الخير أفواجاً، حتى إن المرضى في مستشفى مدينة بنارس أرسلوا إلى السيد يقولون: إنا رهائن الفراش وأحلاس الدار فلا نستطيع أن نحضر فلو رأى السيد أن يتفضل مرة حتى نتوب على يديه لفعل، وذهب السيد وبايعهم.
وأقام في كلكته شهرين، ويقدر أن الذين كانوا يدخلون في البيعة لا يقل عددهم عن ألف نسمة يومياً، وتستمر البيعة إلى نصف الليل، وكان من شدة