يتصل بالروح والقلب، وتوافرت المزهدات والمثبطات عنه، وكثرت الدواعي والحافزات إلى ضده، واتجه تيار الذي والنبوغ والعبقرية - الذي كان متجهاً من قبل إلى الدين - من صنوف الدين وأقسام العلم الديني والروحي، إلى الإنتاج والإبداع في أنواع علوم المعاش ومرافق الحياة.
وكان لا يزال بالعهد الراحل رمق وبقية من حياة تنازع الموت وتحاول البقاء، فكان لا يزال في الناس رجال يدعون إلى الدين وإصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق وتصفيتها وهم تذكار لسلفهم في زهدهم في الدنيا والإقبال على الآخرة والإخلاص واتباع السنة،
وكانت لا تزال لهم دعوة في الناس، والمسلمون يعدون الاتصال بهؤلاء والتمسك بأهدابهم حقاً من حقوق الدين وواجباً من واجبات الحياة، وكان بعض الأغنياء والأمراء وأرباب الدنيا، لهم اهتمام زائد بحسن الخاتمة وأمور الآخرة وصلاح القلب وعمارة الباطن، ولكن كان هذا كله أشبه بالتهاب السراج قبل الانطفاء، فقد ذوى أصل الشجرة الدينية، وانقطعت عنها مادة الحياة، وهبَّ عليها إعصار فيه نار.
سرى الشك وسوء الظن في الأوساط الدينية والبيوت العريقة في الدين والعلم بتأثير المحيط وبتأثير التعاليم الإفرنجية وضعفت الثقة بالله وبصفاته وبمواعيده، فأصبح الآباء يضنون بأولادهم على الدين، ولا يخاطرون بأوقاتهم وقواهم في سبيل الدين وعلوم الدين، وأصبحوا يعلمونهم العلوم المعاشية واللغات الإفرنجية، لا رغبة في تحصيل المفيد النافع ولا دفاعاً عن الإسلام بل زهداً في الدين وفراراً من خطر المستقبل وخوفاً على أفلاذ أكبادهم من الضياع واستسلاماً للدهر المتقلب، وتسلط عليهم خوف الفقر حتى أصبحوا من خوف الموت في الموت.
وهكذا انقرض هذا الجيل وطوي هذا البساط، ولفظ هذا العهد الروحي نفسهُ الأخير، وتلاه عهد المادة، وأصبحت الدنيا سوقاً ليس فيها إلا البيع والشراء.
طغيان المادية والمعدة:
رووا أن شاعرة جاهلية هي ((كبشة بنت معد يكرب)) عاتبت أخاها عمرو بن معد يكرب، وعيرته بميله إلى قبول دية أخيه المقتول فقالت: