ودع عنك عمْراً إن عمْراً مسالم *** وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم؟
ما تتصور المرأة الجاهلية البسيطة أن بطن إنسان يتجاوز مقدار شبر فكيف لو رأت معدة الإنسان الحاضر ابن القرن العشرين؛ تضخمت وكبرت حتى وسعت الأرض وتجاوزت حتى أصبحت لا يملؤها إلا التراب.
نعم تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا يشبعها مقدار من المال، وتولد في الناس غليل لا يُرْوى وأُوارٌ لا يُشفى، وأصبح كل واحد يحمل في قلبه جهنم لا تزال تبتلع
وتستزيد، ولا تزال تنادي هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ تسلط على الناس - أفراداً وأمماً - شيطان الجشع والحرص فكأن بهم مساً من الجنون، وأصبح الإنسان نهما يلتهم الدنيا التهاماً، ويستنزف موارده حلالاً وحراماً، ثم لا يرى أنه قضى لبانته وشفى نفسه، والعهدة في ذلك على وضع الحياة الحاضرة وطبيعتها وكونها مادية صرفة لا تؤمن بالآخرة. وخليق بمن لا يعتد إلا بحياته الدنيا ولا يرى وراءها عالما آخر وحياة ثانية أن تكون هذه الحياة بضاعته ورأس ماله وأكبر همه وغاية رغبته ومبلغ علمه، وأن لا يؤخر من حظوظها وطيباتها ولذائذها شيئاً وأن لا يضيع فرصة من فرصها، ولأي عالم يدخر وهو لا يؤمن بعالم وراء هذا العالم، ولا بحياة بعد هذه الحياة؟
وقد عبر عن هذه النفسية الجاهلية الشاعر الجاهلي الشاب طرفة بن العبد في صراحة وبساطة فقال:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي *** فدعني أبادرْها بما ملكت يدي
كريم يروِّي نفسه في حياته *** ستعلم إن متنا غداً أينا الصَّدِي
وكل إنسان متمدن اليوم - إلا من عصمه الله بالإيمان - يرى هذا الرأي ويذهب هذا المذهب في الحياة، إلا أنه قد يجرؤ على أن يصرح به، وقد لا يملك ذلك اللسان البليغ الذي يعبر عن ضميره؛ والسبب الثاني: - هو الأدب العصري - بمعناه الواسع - الذي لا يتحدث إلا عن المادة وأصحابها، ويخنع لأهل الثراء