وأصحاب الاحتكار وأصحاب الإنتاج، الخنوع الذي لا يليق بالأدب الشريف العالي، فيكتب دقائق حياتهم في تفصيل، وينشر ألقابهم وأسماءهم بقلم عريض وكل نفس من أنفاس مدحه وتقريظه وكل فصل من فصول روايته ينتهي إلى نتيجة مادية أو إلى بطل من أبطال المادة، ويزين للقارئ المذهب الأبيقوري تارة بالتلميح وتارة بالتصريح، ويحث الشباب على التهام الحياة وانتهاب المسرات نثراً وشعراً وفلسفة ورواية وتحليلاً وتصويراً، فلا ينتهون منه إلا بالروح المادية والتقديس لرجال المادة.
وكذلك المجتمع الذي لا يقدر إلا الغني الظريف متناسياً كل ما فيه من رذيلة ولؤم أصل وسوء خلق، ويتجنى على الإنسان الذي لا يترجح في ميزانه مهما كثرت مواهبه وطاب عنصره وسما جوهره، ويلمِّح وقد يصرح بأن الفقير لا يستحق الحياة، ويعامله معاملة
الدواب والحمير والكلاب، فيرغم الإنسان - إذا لم يكن ثائراً على المجتمع - على أن يخضع لشريعة مجتمعه، وأن يتجمل ويتظرف لمجتمعه، فلا يلبس إلا لغيره ولا يتأنق إلا لغيره.
وهذا المجتمع لا تزال مقاييسه للشرف والظرافة تتغير ومعاييره للإنسانية تتبدل وتتحول ومطالبه تتنوع وتتكثر، حتى يضيق الإنسان بها ذرعاً ويلجأ إلى طرق غير شريفة لتحصيل المال وإلى كدح وكد في الحياة، وهناك هموم تتوالى ولا تنتهي ومتاعب تتسلسل ولا تنقطع.
وزاد الطين بلة تنافس المصانع والمنتجين والصناع؛ ففي كل صباح يتدفق على المدينة سيل جديد من أحدث المنتجات وأحدث طراز من السيارات والسجائر والأزياء والقبعات والأحذية والأدهان والأطلية وأسباب الزينة والزخارف والأجهزة ولا يجلب منها شيء قياماً بالواجب وسدّاً للعوز، بل كله في سبيل الاستغلال الصناعي والاحتكار التجاري، ولا تلبث هذه المنتجات التي هي من فضول الحياة أن تدخل في أصول المعاش ولوازم المدينة، والذي لا يتحلى بها لا يعد من الأحياء.
ولهذه الأسباب ولغيرها ارتفعت قيمة المال في عيون الناس ارتفاعاً لم تبلغه في الزمن السابق، وبلغ من الأهمية والمكانة مبلغاً لم يبلغه - على ما نعرفه - في دور من أدوار التاريخ المدون، وأصبح المال هو الروح الساري في جسم المجتمع البشري والحافز الأكبر للناس على أعمالهم ونشاطهم المدني، وقد يدفع المخترع إلى الاختراع