والصانع إلى صناعته والسياسي إلى مقالته والمرشح إلى انتخابه والعالم إلى تأليفه، حتى القادة إلى الحرب، فهو القطب الذي تدور حوله رحى الحياة العصرية كما يقول الأستاذ ((جود)) معلم الفلسفة وعلم النفس في جامعة لندن: ((إن النظرية المهيمنة السائدة على هذا العصر هي النظرية الاقتصادية، وأصبح البطن أو الجيب ميزاناً لكل مسألة فبمقدار اتصالها بالجيب وتأثيرها فيه يقبل الناس عليها ويعنون بها)) .
إذا حكمت على عصرك وطبائعه وأذواقه وأنت بمعزل عن الحياة، وبنيت حكمك على مؤلفات ومقالات إنما تكتب في زاوية من زوايا الكتب فإنك تغالط نفسك، وقد تقرأ في هذه الكتب الفلسفية أو المقالات العلمية التحليلية كأنك في عصر متمدن راق تتحكم فيه معايير الأخلاق وتسود فيه المثل العليا ويغشاه سحاب الفضيلة والنبل، وتحلق عليه روح الديانة والعلم، ولكن الواقع غير ذلك، فإن هذه الكتب إنما ألفت في عالم الخيال الذي يعيش فيه
مؤلفوها، وإن أهواءهم وأذواقهم هي التي خلقت لهم عالم خيالياً يصفونه ويصورونه في كتبهم، حتى يخيل إلى القارئ أنه هو العالم المحيط به.. وللأهواء عجائب وخوارق.
ولكنك إذا اتصلت بالحياة عن كتبٍ لا عن كُتبٍ، وخالطت الناس ودرست أحوالهم وأصغيت إلى حديثهم في البيت وفي القطار والبستان وعلى المائدة وفي السمر، رأيت (الذهب) حديث النوادي وشغل الألسنة وهوى القلوب، والبداية والنهاية في كل موضوع، والقطب الذي تدور حوله رحى الحياة.
إن شاعراً عربياً يلعن الصعلوك الذي لا يتعدى نظره ولا يسمو فكره عن لباس وطعام ويقول:
لحا الله صعلوكاً مناه وهمه *** من العيش أن يلقى لبوساً ومطعماً
فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدينة وهي تجري بفلاسفتها وسياسييها ونوابغها وعلمائها وكتابها وأشرافها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية لا تتعدى لبوساً ومطعماً مهما تنوعت أشكالها وتضخمت ألقابها؟! فالحياة كلها جهاد في سبيل اللباس والطعام.