جرايات في بريلي ويواصلون درووسهم هناك، وهنا أطلق الشيخ آخر سهامه الذي أصمى رميته فقال: وماذا يكون جوابي غداً إذا سالني ربي: كيف أخذت الأجرة على العلم؟ وهنا بهت الإنجليزي وسقط في يديه وعرف نفسية العالم المسلم، وقضى الشيخ حياته على أقل من جنيه يأخذه كل شهر.
قارن هذه الروح السامية والنفس الكبيرة التي تربا بالعلم أن يباع بيع السلع , وتغار على العقيدة والكرامة أن تشترى بمال أو منفعة , بهذا التبذل والإسفاف الذي وصل إليه أهل العلم والعقل والصناعة في هذا الزمان , فقد عرض كثير من علمهم وعقلهم وما يحسنونه كالسلع في الأسواق، يبيعونها بالمناداة (المزاد العلني) ليشتريها من يزيد في الثمن كائناً من كان، فليس الشأن عندهم في العقيدة ولا في الغرض والنتيجة ولا في الملاءمة والذوق، إنما الشأن عندهم في الثمن الذي يدفعه المشتري.
وكل يوم نطلع على مضحكات مبكيات في هذا الباب، فهذا الأستاذ كان أمس في معهد إسلامي يدرس العلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وقدمت غليه الكلية الكاثوليكية الفلانية وظيفة تدريس براتب يزيد على راتبه السابق بخمسة جنيهات فانتقل إليها، وهذا
السيد فلان كان في وزارة المعارف سابقاً، وكان شاباً مثقفاً وعالماً له هوى في التحقيق والدراسة، تقرأ له مقالات علمية في المجلات الراقية، فإذا به ينتقل فجأة إلى مصلحة الطيران أو الإذاعة، وسألناه: ماذا حدث له حتى غير طريقه وقلب تيار حياته؟ فأخبرنا أن ذلك لأجل أنه يربح في مركزه الجديد عشرة جنيهات، وهذا البحاثة الفلاني كتب مقالة عن التصوف الإسلامي ونال بها ثناء أهل العلم قد تحول إلى وزارة الخارجية أو أصبح ترجمان دولة أوروبية، وما هو إلا لأجل زيادة بمقدار بضعة جنيهات، أوليس هذا لأن الربح المالي قد أصبح كل شيء، ولأن الذهب اللماع أصبح المتصرف الوحيد في مناهج الحياة والمسيطر الوحيد على الأرواح والعقليات؟! .
قرأنا في التاريخ الإسلامي أن المنصور الخليفة العباسي المشهور طلب من ابن طاوس في مجلس أن يناوله الدواة ليكتب شيئاً فامتنع، فسأله الخليفة عن سبب امتناعه وعدم امتثاله أمر خليفة المسلمين، فقال: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها ومتعاوناً على الاثم والعدوان. إلى هذا الحد وصل بهم تمسكهم بقوله