للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

- المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يُحْمَلُ الحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي قَولِهِ تَعَالَى: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»؟

الجَوَابُ: نَعَمْ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ حَقِيقَتُهُ، وَلَكِنْ مَا ظَاهِرُ هَذَا الحَدِيثِ؟

هَلْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَكُونُ نَفْسَ سَمْعِ الوَلِيِّ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ؟ أَو يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجلِهِ بِحَيثُ يَكُونُ إِدْرَاكُهُ وَعَمَلُهُ للهِ وَبِاللهِ وَفِي اللهِ؟

لَا رَيبَ أَنَّ القَولَ الأَوَّلَ لَيسَ هُوَ ظَاهِرُ الكَلَامِ، بَلْ وَلَا يَقْتَضِيهِ الكَلَامُ لِمَنْ تَدَبَّرَ الحَدِيثَ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ»، وَقَالَ: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» فَأَثْبَتَ عَبْدًا وَمَعْبُودًا، وَمُتَقَرِّبًا وَمُتَقَرَّبًا إِلَيهِ، وَمُحِبًّا وَمَحْبُوبًا، وَسَائِلًا وَمَسْئُولًا، وَمُعْطِيًا وَمُعْطًى، وَمُسْتَعِيذًا وَمُسْتَعَاذًا بِهِ، فَسِيَاقُ الحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى اثْنَينِ مُتَبَايِنَينِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيرُ الآخَرِ.

وَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ القَولِ الأَوَّلِ وَامْتِنَاعُهُ تَعَيَّنَ القَولُ الثَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الحَدِيثِ حَيثُ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الإِثَابَةِ وَالإِعَانَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَدِّدُ هَذَا الوَلِيَّ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعَمَلِهِ، وَهَذَا مَا فَسَّرَهُ بِهِ السَّلَفُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ مُطَابِقٌ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمُوَافِقٌ لِحَقِيقَتِهِ، وَمُتَعَيِّنٌ بِسِيَاقِهِ، وَلَيسَ فِيهِ تَاوِيلٌ وَلَا صَرْفٌ لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ. وَللهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ (١) (٢).


(١) المُجَلَّى فِي شَرْحِ القَوَاعِدِ المُثْلَى لِابْنِ عُثَيمِينَ (ص: ٢٨٤) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
قُلْتُ: وَمِثْلُهُ قَولُ القَائِلِ: جَعَلَ الوَزِيرُ فُلَانًا يَدَهُ اليُمْنَى، وَفُلَانًا عَيْنَهُ، فَمَا هُوَ ظاهِرُ هَذَا الكَلَامِ عَلَى الحَقِيقَةِ وُفْقَ اللِّسَانِ العَرَبِيِّ وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى ذِهْنِ العَالِمِ أَوِ العَامِيِّ؟ وَفِي الجَوَابِ هُنَا الجَوَابُ هُنَاكَ.
(٢) وَفِي الجَوَابِ عَنِ الحَدِيث أَقْوَالٌ أُخْرُ؛ مِنْهَا: إِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا كَانَ وَلِيًّا للهِ عَزَّ وَجَلَّ حَفِظَ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ وَ .... ، فَلَا يَسْتَخْدِمُهَا إِلَّا فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَالَ الطُّوفِيُّ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ -مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَولِهِم- أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ نُصْرَةِ العَبْدِ وَتَايِيدِهِ وَإِعَانَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا". فَتْحُ البَارِي (١١/ ٣٤٤).
وَ (الطُّوفِيُّ) هَذَا؛ لَعَلَّهُ هُوَ سُلَيمَانُ بْنُ عَبْدِ القَوِيِّ الطُّوفِيُّ الصَّرْصَرِيُّ؛ أَبُو الرَّبِيعِ؛ نَجْمُ الدِّينِ، (المُتَوَفَّى سَنَةَ ٧١٦ هـ)، وَلَهُ شَرْحُ عَلَى الأَرْبَعِين. انْظُرْ كِتَابَ (ذَيلُ طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ) لِلحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ (٤/ ٤٠٤).
قُلْتُ: وَهَذَا المَعْنَى حَقٌّ، لَكِنْ لَيسَ فِي الحَدِيثِ مَجَازٌ حَتَّى يُذْهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ! فَالحَدِيثُ ظَاهِرُهُ هُوَ هَذَا المَعْنَى نَفْسُهُ.

<<  <   >  >>