للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

- وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ فِي الفَتْحِ -مُعَلِّقًا عَلَى الشَّطْرِ الثَّانِي مِن عِبَارَةِ البُخَارِيِّ: (وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ) -:

"وَأَمَّا المَقَامُ الثَّانِي؛ فَذَهَبَ السَّلَفُ إِلَى أَنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ المُتَكَلِّمِينَ، وَقَالُوا: مَتَى قَبِلَ ذَلِكَ كَانَ شَكًّا.

قَالَ الشَّيخُ مُحْيِيُ الدِّينِ: وَالأَظْهَرُ المُخْتَارُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَوُضُوحِ الأَدِلَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ إِيمَانُ الصِّدِّيقِ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيرِهِ؛ بِحَيثُ لَا تَعْتَرِيهِ الشُّبَهُ.

وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَلُ حَتَّى إِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ الإِيمَانُ أَعْظَمَ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا وَتَوَكُّلًا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيقِ وَالمَعْرِفَةِ بِحَسَبِ ظُهُورِ البَرَاهِينِ وَكَثْرَتِهَا، وَقَدْ نَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ (تَعْظِيمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ صَرَّحَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي (مُصَنَّفِهِ) عَنْ سُفْيَانَ الثَّورِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالأَوزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيجٍ وَمَعْمَرٍ وَغَيرِهِمْ -وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ الأَمْصَارِ فِي عَصْرِهِمْ-، وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو القَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ فِي كِتَابِ (السُّنَّةِ) عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوِيه وَأَبِي عُبَيدٍ وَغَيرِهِمْ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَرَوَى بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ عَنِ البُخَارِيِّ قَالَ: لَقِيتُ أَكْثَرَ مِنَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ العُلَمَاءِ بِالأَمْصَارِ؛ فَمَا رَأَيتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يَخْتَلِفُ فِي أَنَّ الإِيمَانَ قَولٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وَأَطْنَبَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَاللَّالِكَائِيُّ فِي نَقْلِ ذَلِكَ بِالأَسَانِيدِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكُلِّ مَنْ يَدُورُ عَلَيهِ الإِجْمَاعُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَحَكَاهُ فُضَيلُ بْنُ عِيَاضٍ وَوَكِيعٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَقَالَ الحَاكِمُ فِي (مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ): حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ الأَصَمُّ؛ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ؛ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الإِيمَانُ قَولٌ وَعَمَلٌ، يَزِيدُ وَيَنْقُصُ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيمٍ فِي تَرْجَمَةِ الشَّافِعِيِّ مِنَ (الحِلْيَةِ) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الرَّبِيعِ وَزَادَ (يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ ثُمَّ تَلَا {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المُدَّثِّر: ٣١] الآيَةَ) " (١).

- تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ:

قَالَ الشَّيخُ ابْنُ عُثَيمِين رَحِمَهُ اللهُ: "فَقَولٌ: لَا إِلَه َإِلَّا اللهُ: قَوْلُ لِسَانٍ، وَإِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ: فِعْلُ الجَوَارِحِ، وَالحَيَاءُ: وَهَذَا عَمَلُ قَلْبٍ؛ مِنَ الإيمَانِ، وَلَا حَاجَةَ أَنْ نَقُولَ مَا يَدُورُ الآنَ بَينَ الشَّبَابِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ: هَلِ الأَعْمَالُ مِنْ كَمَالِ الإِيمَانِ أَوْ مِنْ صِحَّةِ الإِيمَانِ؟

فَهَذَا السُّؤَالُ لَا دَاعِيَ لَهُ، أَيُّ إِنْسَانٍ يَسْأَلُكَ وَيَقُولُ: هَلِ الأَعْمَالُ شَرْطٌ لِكَمَالِ الإِيمَانِ أَوْ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الإِيمَانِ؟ نَقُولُ لَهُ: الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَشْرَفُ مِنْكَ وَأَعْلَمُ مِنْكَ وَأَحْرَصُ مِنْكَ عَلَى الخَيرِ؛ وَلَمْ يَسْأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هَذَا السُّؤَالَ! إِذًا يَسَعُكَ مَا يَسَعُهُم.

إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا العَمَلَ يَخْرُجُ بِهِ الإِنْسَانُ مِنَ الإِسْلَامِ صَارَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الإِيمَانِ، وَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ صَارَ شَرْطًا لِكَمَالِ الإِيمَانِ وَانْتَهَى المَوضُوعُ.

أَمَّا أَنْ تُحَاوِلَ الأَخْذَ وَالرَّدَّ وَالنِّزَاعَ؛ ثُمَّ مَنْ خَالَفَكَ قُلْتَ: هَذَا مُرْجِئٌ، وَمَنْ وَافَقَكَ رَضِيتَ عَنْهُ، وَإِنْ زَادَ قُلْتَ: هَذَا مِنَ الخَوَارِجِ!! وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.

فَلِذَلِكَ مَشُورَتِي لِلْشَّبَابِ وَلِطُلَّابِ العِلْمِ أَنْ يَدَعُوا البَحْثَ فِي هَذَا المَوضُوعِ، وَأَنْ نَقُولَ: مَا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُه شَرْطًا لِصِحَّةِ الإِيمَانِ وَبَقَائِهِ فَهُوَ شَرْطٌ، وَمَا لَا فَلَا وَنَحْسِمُ المُوضُوعَ" (٢).


(١) فَتْحُ البَارِي لِابْنِ حَجَرٍ (١/ ٤٧).
(٢) شَرْحُ الأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ لِلْعُثَيمِين (ص: ٣٣٧).

<<  <   >  >>