للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما ما تعتقده المرجئة من التفريق بين الإيمان والعمل، وإثبات الإيمان كاملا في القلب مع وقوع عمل الجوارح على خلافه (١) ، فهو فصل اعتباطي للحقيقة النفسية الواحدة، يجعل أحد شقيها ذاهبا ذات اليمين والآخر ذاهبا ذات الشمال في وقت واحد، وهو ما لا يقع أبدا، بل هذا الفصل يشبه من الناحية العضوية فصل القلب عن الجسد وفصل الطاقة عن الحركة.

حقيقة الأمر أن المرجئة تعتبر الإيمان قضية ذهنية مجردة - تسمها تصديقا أو معرفة - تعلق هذه القضية بالقلب كمادة جامدة ومعزولة لا تزيد ولا تنقص، توجد كاملة أو تذهب كاملة، ولا تستلزم أي أثر في الوجدان والشعور أو الحركة والكدح، بل هي مثل أي معلومة رياضية أو مقولة فلسفية!!

وهي حين تعتقد ذلك يغيب عنها حقيقة بالغة الأهمية، وهي كيف إذن يفسر العمل الإنساني الدائب الذي لا يتوقف إلا لحظة الموت؟ ما مصدره؟ ما طاقته؟ ما دوافعه إن لم يكن الإيمان؟ أياً كان هذا الإيمان!!

حقا لقد جهدت كثيرا لكي أعثر على وجهة نظر القوم في هذه القضية الكبرى بلسان مقالهم لا بلسان حالهم، وتساءلت أيستطيع هؤلاء أن يلتزموا القول بأن المؤمن - على زعمهم - مصاب بانفصام الشخصية؛ فهو يعتقد غير ما يعمل، ويعمل غير ما يعتقد (٢) ؟!

وكيف يجيبون على كثير من الأسئلة البدهية التي يفجؤهم بها مناظرهم قبل الدخول في تفصيلات النقاش العلمي والخوض الجدلي مثل:

كيف يمتلئ القلب بالحب وتعمل الجوارح أعمالا كلها عداء وانتقام؟!

وكيف يمتلئ القلب بالرحمة وتعمل الجوارح أعمالا كلها غلط وفظاظة؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتصديق وتعمل الجوارح أعمالا كلها تكذيب وإعراض؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتقوى وتعمل الجوارح أعمالا كلها فجور وآثام (٣) ؟ .


(١) وهذا مما أجمعت عليه جميع المرجئة. انظر: الإيمان، ص ٣٤٧ لشيخ الإسلام، وتفصيل أقوالهم يأتي في موضعه بإذن الله. والمراد هنا جنس العمل لا آحاده.
(٢) والواقع أنه حتى انفصام الشخصية لا ينطبق في حقيقته على ما تعتقده المرجئة؛ لأن السلوك المتناقض فيه نتيجة شخصيتين قائمتين فعلا في شخص واحد بالتعاقب.
(٣) إذا كان هذا مذهب المرجئة - أو لازم قول بعضهم وإن لم يلتزمه - وهو عجيب، فيحق لنا أن نعجب أيضا لأقوام ينتسبون إلى العلم ولا يقرون الإرجاء نظريا، ولكنهم يجادلون عن أناس وقفوا أنفسهم على حرب الله ورسوله ومعاداة الدين وأهله، وطمس معالم الحق والهدى ومحاربة أحكام الشريعة وموالاة أعداء الله، وجعلوا ذلك شغلهم الشاغل وعملهم الدائب وهمهم الأكبر لا يشذ عنه إلا أعمال من التلبيس يذرون بها الرماد في العيون، وقد كان أهل الجاهلية الأولى يتنسكون بمثلها أو أكثر منها، وقد قال الله تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما» [النساء: ١٠٥- ١٠٧]

<<  <   >  >>