للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مع نصوص كثيرة لا تحصى، وليس هذا خاصاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء، فما عليهم إلا الصبر والدعوة أما النصر والتمكين فمن عند الله.

وقد كان الناس الذين يملكون أثارة من علم يعلمون هذه الحقيقة، قبل أن يقرءوها في كتاب الله تعالى، بل قبل أن ينزل بها.

فهذا ورقة ابن نوفل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: " ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك! ‍‍".

فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم في استغراب: " أو مخرجي هم؟ ‍". فيقول ورقة: " لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي " (١) .

وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: " سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم يكون لهم العاقبة " (٢) .

وهذا ما صدقه الله بقوله تعالى:

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (٣) .

وفي هذا رد - وأيما رد - على الذين يحسبون الإيمان نظرية تعلق بالفكر، يستوجب صاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة (٤) ، وهو ما تأباه سنة الله الثابتة هذه، وتأباه طبيعة الإيمان نفسها، بل طبيعة الجاهلية أيضاً.

فلا الإيمان كان نظرية مجردة، ولا الجاهلية كانت كذلك، ولا يكون ذلك أبداً، بل هنالك سنة من سنن الاجتماع البشري، يشهد بها الواقع المحسوس والتاريخ المسطور، وهي أن "هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده، والتي واجهها الداعية العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بدعوته، والتي واجهها الدعاة في كل زمان وفي كل مكان. إن الجاهلية لم تكن متمثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحياناً لم تكن لها نظرية على الإطلاق إنما كانت متمثلة في تجمع حركي، متمثلة في مجتمع خاضع


(١) الفتح (١/٢٣) وسيأتي بتمامه.
(٢) الفتح (١/٢٠)
(٣) [البقرة:٢١٤]
(٤) كما هو لازم مذهب المرجئة الغلاة قديما؛ الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد المعرفة أو مجرد التصديق. كما سيأتي تفصيله.
وهو مذهب بعض العصريين الذين لا يتعدى الإيمان عندهم النظرية الفلسفية المجردة.

<<  <   >  >>