للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وسيأتى بقية من هذا ضمن تراجم المرجئة القدماء، والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت فى ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدا فى مقاومتها، وكان نظرهم بعيدا وصائبا حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة، مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عبادا وزهادا فى الغالب.

وعلى هذا فلا غرابة فى تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع وابن المبارك والسفيانين، وابن مهدى، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز.

والقضية التي لا ينبغى أن تفوتنا هى أن كلمة المرجئة فى اصطلاح هؤلاء العلماء إنما تعنى هذا الإرجاء - أي إرجاء الفقهاء -، وظل هذا قائما حتى بعد ظهور الجهمية - كما سنرى - فكل ذنب أو عيب قيل فى المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثانى تقريبا، بل هو الأغلب على القرن الثالث، ولهذا نجد من المصنفين من لم يطلق اسم الإرجاء على سواهم؛ كابن عبد البر في " التمهيد "؛ فإنه لم يذكر المرجئة الجهمية الأشعرية، ولعله تبع أبا عبيد فى ذلك (١) .

ومن علماء السنة الكبار من فرق بين مسمى المرجئة ومسمى الجهمية؛ وذلك لأن المرجئة عندهم مبتدعة، والجهمية كفار (٢) .

يقول الفضيل بن عياض: " أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل " (٣) .

ويقول وكيع بن الجراح: " ليس بين كلام الجهمية والمرجئة كبير فرق؛ قالت الجهمية: الإيمان المعرفة بالقلب، وقال المرجئة: الإقرار باللسان " (٤) .


(١) انظر: التمهيد (٩ / ٢٣٨ - ٢٥٨) ، وكتاب الإيمان لأبى عبيد - ضمن الرسائل الأربعة التي حققها الشيخ الألبانى، مع ملاحظة أن أبا عبيد ذكر الجهمية، لكن صرح بأن قولهم شاذ لا يعتد به ولا يحتاج لرد وجدل، بل هو منسلخ عن قول أهل الملل الحنيفية، انظر ص٧٩.
(٢) انظر فصل " الجهم بن صفوان " الآتى.
(٣) تهذيب الآثار (٢ / ١٨٢) .
(٤) أي مع الاعتقاد، المصدر السابق (٢ / ١٨٢) ، ومثله عنه فى خلق أفعال العباد، وسيأتى فى فصل " الجهم ابن صفوان ".

<<  <   >  >>