للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأنه إذا كانت المخالفة الجزئية لخطة المعركة - كما وقع من الرماة ـ وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس - نذائر شؤم وأسباب هزيمة وخسارة، فما بالك بأمة تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط، وتستحل الربا والغلول و ... ، و ... ، وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها، فهذا هو الإيمان كما علمته إياها كتب علم الكلام!

إنها هوة كبيرة جداً بين هذا الإيمان الحي المتحرك الوثاب الذي يخطئ فيرى عقوبة خطيئته، ويصيب فيرى بركة استقامته، وبين تلك القضايا الذهنية الباهتة الباردة التي يتوهمها الكلاميون، والعواطف الغامضة المشوشة التي يتخرصها الصوفيون (١) .

وخير مثال لهذه الهوة هو الهوة بين واقع الجيل الأول وواقع العصور المتأخرة عصور الإرجاء!

وبعد أن تمثلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مكسور الثنية مجروح الوجنة متردياً في حفرة يوم أحد، نتمثله الآن في يوم آخر وهو عاصب على بطنه من الجوع يضرب بالفأس ويجرف بالمسحاة ويحمل في المكتل، وينشد مع أصحابه:

والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

ويقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. فيجيبونه:

نحن الذين بايعوا محمداً ... ... على الجهاد ما بقينا أبداً (٢)

وذلك يوم الخندق، وما أدراك ما يوم الخندق؟!

هذا اليوم الذي يضيف إلى دروس أحد دروساً جديدة ويرسم معالم إيمانية جديدة أيضاً، ويعطي صفحة آخرى نقرأ فيها كيف أنه "في معترك الحياة ومصطرع


(١) هذا بغض النظر عن الدوافع الأصلية للفلسفة والتصوف.
(٢) انظر: الفتح، المغازي (٧/ ٣٩٢، ٣٩٩) ، ومسلم، الجهاد، رقم (١٨٠٣ - ١٨٠٥) .

<<  <   >  >>