للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد كان الجيل الأول - أصفى أجيال الإنسانية وأعظمها - يدرك هذه الحقائق إدراك من عاناها وتذوقها وتربى عليها وجاهد لأجلها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يعانيها ويدعوا إليها. وقد ملك هذا الإدراك نفوس ذلك الجيل حتى بلغ بهم حداً رفيعاً من الحساسية ورهافة الشعور تجاهها، فاستصحبوا الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس واستعظام الهفوة، حتى وصل الحال ببعضهم أحياناً إلى ما يشبه قنوطاً ويأساً، وحتى إنهم ليرون ما ليس بذنب ذنباً، ويخشون أن يكون ما أعطاهم الله من الكرامة عقوبة واستدراجاً، والنماذج الثابتة في هذا كثيرة جداً:

"عن أنس رضى الله عنه قال: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة" (١) .

وعن سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه قال: " إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط " (٢) .

وعن جابر رضى الله عنه قال: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا، فأقسم أخطئها رجل منا يوما فانطلقنا به ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها" (٣) .

وعن عتبة بن غزوان رضى الله عنه - في حديث عظيم له ـ: "ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحداً إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً" (٤) .


(١) البخاري (٧/٣٨٦) .
(٢) البخاري (١١/٢٨٢) ، ومعنى يضع: يرعى، أو معناه: ما يخرج منه حال التغوط، هكذا ذكره الحافظ في الفتح (١١/٢٩٠) .
(٣) مسلم رقم (٣٠١١) والقسي جمع قوس، كانوا يخبطون بها الشجر ليأكلوا ورقه، والمراد أن أحد الصحابة أخطأته تمرته ولم يعطها إلا بعد أن أقام البينة أنه لم يأخذها.
(٤) مسلم رقم (٢٩٦٧) .

<<  <   >  >>