للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها البتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب (١) .

فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها، ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أدنى به وأعود عليه بالنفع عاجلا أو آجلا (٢) .

وبعد هذه اللفتات التزكوية القيمة نعود لاستكمال الحديث عن تلك الحقيقة الكبرى:

"وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إما في واجب آخرته ومصالحها وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل الرحى تدور بما يلقى فيها، فإن ألقيت فيها حباً دارت به وإن ألقيت فيها زجاجاً وحصى وبعراً دارت به، والله سبحانه هو قيم تلك الرحى ومالكها ومتصرفها، وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطانا يلقي فيها ما يضرها فتدور به، فالملك يلم بها مرة والشيطان يلم بها مرة. فالحب الذي يلقيه الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد، والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع " (٣) .

وعن القضية نفسها ومن الزاوية التي أشرنا إليها يتحدث شيخه شيخ الإسلام فيقول: " كل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره ".

وهذا أصل عظيم من أصول التصور السلفي يشرحه مرتبطا بحقيقة النفس الإنسانية قائلاً: "فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح (٤) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصدق الأسماء حارث وهمام".

فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة.


(١) وفي عصرنا من ذلك الغثاء أضعاف أضعاف ما كان، ويشبه ذلك إضاعة العمر في تتبع المواضع التي ذكرها الشعراء ومعرفة أنساب الحيوان وغيرها مما أفنى فيه بعض الناس عمره والله سائله عنه يوم القيامة.
(٢) الفوائد، ص ١٩٨- ١٩٩.
(٣) الفوائد، ص ١٧٦- ١٧٧.
(٤) هكذا قال هنا، وفي الإيمان ص ٤٠ وغيره: " في الحديث الصحيح " وهو الصواب؛ فإن الحديث ليس في أي من الصحيحين.

<<  <   >  >>