للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَغْلَقْت عَلَيّ بَابِي، وَأَرْسَلْت إلَى ابْنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سُهَيْلٍ أَنْ اُطْلُبْ لِي جِوَارًا مِنْ مُحَمّدٍ، وَإِنّي لَا آمَنُ أَنْ أُقْتَلَ. وَجَعَلْت أَتَذّكّرُ أَثَرِي عِنْدَ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ أَثَرًا مِنّي، وَإِنّي لَقِيت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَا لَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ، وَكُنْت الّذِي كَاتَبْته، مَعَ حُضُورِي بَدْرًا وَأُحُدًا، وَكُلّمَا تَحَرّكَتْ قُرَيْشٌ كُنْت فِيهَا. فَذَهَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُؤَمّنُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللهِ، فَلْيَظْهَرْ! ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلَا يَشُدّ النّظَرَ إلَيْهِ، فَلْيَخْرُجْ، فَلَعَمْرِي إنّ سُهَيْلًا لَهُ عَقْلٌ وَشَرَفٌ، وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَقَدْ رَأَى مَا كَانَ يُوضَعُ فِيهِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَافِعِ!

فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ إلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: كَانَ وَاَللهِ بَرّا، صَغِيرًا وَكَبِيرًا! فَكَانَ سُهَيْلٌ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ، وَخَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ مَعَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ حَتّى أَسْلَمَ بِالْجِعِرّانَةِ.

وَهَرَبَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ- وهو يومئذ زوج أمّ هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ- هُوَ وَابْنُ الزّبَعْرَى جَمِيعًا حَتّى انْتَهَى إلَى نَجْرَانَ، فَلَمْ يَأْمَنّا مِنْ الْخَوْفِ حَتّى دَخَلَا حِصْنَ نَجْرَانَ، فَقِيلَ لَهُمَا: مَا وَرَاءَكُمَا؟ قَالَا: أَمّا قُرَيْشٌ فَقَدْ قُتِلَتْ، وَدَخَلَ مُحَمّدٌ مَكّةَ، وَنَحْنُ وَاَللهِ نَرَى أَنّ مُحَمّدًا سَائِرٌ إلَى حِصْنِكُمْ هَذَا! فَجَعَلَتْ بَلْحَارِثٍ وَكَعْبٌ يُصْلِحُونَ مَا رَثّ مِنْ حِصْنِهِمْ، وَجَمَعُوا مَاشِيَتَهُمْ، فَأَرْسَلَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَبْيَاتًا يُرِيدُ بِهَا ابْنَ الزّبَعْرَى، أَنْشَدَنِيهَا ابْنُ أَبِي الزّنَادِ:

لَا تَعْدَمْنَ [ (١) ] رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ فِي عيش أحذّ [ (٢) ] لئيم


[ (١) ] فى الأصل: «لا بعد من» ، وما أثبتناه عن ابن إسحاق. (السيرة النبوية، ج ٤، ص ٦٠) .
[ (٢) ] الأحذ: هو القليل المنقطع. ومن رواه أجد فمعناه منقطع أيضا، وقد يجوز أن يكون معناه:
فى عيش لئيم جدّا. (شرح أبى ذر، ص ٣٧٣) .