للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجسم الطبعي «١» عن الألوان مع كونها عارضة له بواسطة مباينة، وهو السطح.

وتحقيقه أن المقصود في كل علم مدوّن بيان أحوال موضوعه: أعني أحواله التي توجد فيه ولا توجد في غيره ولا يكون وجودها فيه بتوسّط نوع مندرج تحته، فإن ما يوجد في غيره لا يكون من أحواله حقيقة بل هو من أحوال ما هو أعم منه؛ والذي يوجد فيه فقط لكنه لا يستعد لعروضه ما لم يصر نوعا مخصوصا من أنواعه، كان من أحوال ذلك النوع حقيقة، فحقّ هاتين الحالين أن يبحث عنهما في علمين موضوعهما ذلك الأعم والأخص، وهذا أمر استحساني كما لا يخفى.

ثم الأحوال الثابتة للموضوع على الوجه المذكور على قسمين: أحدهما ما هو عارض له، وليس عارضا لغيره إلّا بتوسّطه، وهو العرض الأولى. وثانيهما ما هو عارض لشيء آخر وله تعلّق بذلك الموضوع بحيث يقتضي عروضه له بتوسّط ذلك الآخر، الذي يجب أن لا يوجد في غير الموضوع، سواء كان داخلا فيه أو خارجا عنه، إمّا مساويا له في الصدق، أو مباينا له فيه ومساويا في الوجود، فالصواب أن يكتفى في الخارج بمطلق المساواة، سواء كانت في الصدق أو في الوجود، فإن المباين إذا قام بالموضوع مساويا له في الوجود ووجد له عارض قد عرض له حقيقة لكنه يوصف به الموضوع كان ذلك العارض من الأحوال المطلوبة في ذلك العلم، لكونها ثابتة للموضوع على الوجه المذكور.

واعلم أيضا أنّ المطلوب في العلم بيان إنّية «٢» تلك الأحوال، أي ثبوتها للموضوع، سواء علم لمّيتها «٣» أي علّة ثبوتها له أو لا.

واعلم أيضا أنّ المعتبر في العرض الأولي هو انتفاء الواسطة في العروض دون الواسطة في الثبوت التي هي أعم، يشهد بذلك أنهم صرّحوا بأنّ السطح من الأعراض الأولية للجسم التعليمي مع أن


(١) الطبيعي (م).
(٢) الأنّية: أنّى كلمة معناها كيف وأين. لسان العرب، مادة أنن. فالنسبة إليها الأنيّة بالهمزة المفتوحة. وفي لغة تميم بمعنى كيف وأين وللتوكيد. أما إنّي فتثنية إنّا، وكان في الأصل إنّنا فكثرت النونات فحذفت إحداها، وقيل إنّا، وقوله عز وجل إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ، المعنى إنّنا أو إنّكم ... كما تقول إنّي وإيّاكم، معناه إنّي وإنك. والنسبة إلى ذلك الإنّية بالهمزة المكسورة. وقد استعمل هذه الكلمة الكندي (المتوفي ٢٥٦ هـ) دلالة على الذات وعين الأنا المفردة.
ثم عبّر الحلاج (المتوفي ٣٠٩ هـ) عن هذا الفهم في طاسين الالتباس والأزل ص ٢٨ في تفسيره للفظ عزازيل- إبليس- بالقول: «عين عزازيل لعلو همته والزاء لازدياد الزيادة في زيادته والألف آراؤه في إنّيته ... » وهناك تفريق بين الإنّية والأيّية في الفلسفة ومنذ الكندي القائل: «الفصل هو المقول على كثير مختلفين بالنوع منبئ عن أيّية الشيء» رسالة الكندي في الفلسفة الأولى، تحقيق أبي ريدة القاهرة، ص ١٢٩. وبهذا تتميز الإنّية من الأيّية بمثل تميّز الجوهر عن الفصل. الفارابي، المنطق، تحقيق العجم، ج ٣، ص ١٣٢. ثم إن الأمر التبس على اللاحقين.
فذكر طاش كبرى زادة (المتوفي ٩٦٨ هـ) في مفتاح السعادة، تحقيق بكري وابو النور، القاهرة ج ١، ص ٩٣، تحت علم إملاء العربية: «هو علم يبحث بحسب الأنّية واللميّة عن الأحوال العارضة لنقوش الألفاظ العربية» بينما ورد عند حاجي خليفة (المتوفي ١٠٦٧ هـ) في كشف الظنون عن اسامي الكتب والفنون، مط. المثنى، ص ١٦٩، تحت علم املاء الخط: «هو علم يبحث فيه حسب الأنّية والكمية عن الأحوال العارضيّة لنقوش الخط العربي.» ونرجح أن خطأ مطبعيا وقع بين اللميّة والكميّة أدّى لاختلاف الشرح بين حاجي خليفة وطاش كبرى زادة. والأرجح أن معنى الاصطلاح للإنّية واللميّة هو أين توضع الحروف والتنوين وما شابه وكيف يكون الشكل لمواضع الحروف ومواقع التنوين، ولا سيما أن الأصل والفصل لهما مصطلحاتهما الفلسفية كالماهيّة والأيّية والإنّية.
(٣) اللميّة: من لمى: اللمّة: الجماعة من الناس أو المثل يكون من الرجال والنساء. واللمّة: الشكل: لسان العرب، مادة لما. وبهذا التعريف تلتقي اللفظة مع ما سبق أن شرحناه من معنى الأنّية.