الأمر الثاني: أن الإنسان قد يجرؤ على صديقه أكثر مما يجرؤ على قريبه، لا سيما في أمور الأموال؛ لأن مظنة الاستجابة من الصديق أكثر من مظنة الإجابة من القريب، والسبب في ذلك أن الصديق صديق، يعني لو امتنعت من الدفع شكاك، ورفع أمرك إلى المسؤولين، بينما القريب يظنك أن تأكل ما تقترضه منه، وإذا حصل بينكم ما حصل من الشكاوى صارت القطيعة، فيحسم الباب من هذه الحيثية من أول الأمر، هذا في تصور كثير من الناس، يروح يذهب إلى صديقه يكلمه في أمره ويطلب منه ما يطلب أكثر مما يطلب من قريبه.
قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه، وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في (النساء) وفي المثل: أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك؟ قال: أخي إذا كان صديقي.
يعني إذا لم تكن بين الإخوة شحناء ولا بغضاء فهم أقرب الناس إليك.
الثامنة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} قيل: إنها نزلت في بني ليث بن بكر، وهم حي من بني كنانة، كان الرجل منهم لا يأكل وحده، ويمكث أياماً جائعاً حتى يجد من يؤاكله، ومنه قول بعض الشعراء:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني لست آكله وحدي
قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان لا يأكل وحده، وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه، فنزلت الآية مبينة سنة الأكل ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرماً، نَحَت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد.
يحرّم، بمعنى: يمنع الانفراد، شريطة أن لا يمنع من الانفراد؛ لأن بعض الناس إذا اتخذ على نفسه شيء لا بد أن يحققه ويطبقه، فإذا جرت عادته بأنه لا يأكل وحده إذا صار منفرداً عافت نفسه الطعام، بعض الناس تنفتح نفسه وشهيته مع الأكل مع الإخوان والأصدقاء ثم إذا صار بمفرده عافت نفسه الطعام، وبعض الناس العكس، إذا رأى الناس يأكلون من مائدته انقفلت شهيته، فالناس يتفاوتون في الكرم والبخل والشح، وكتب الأدب مملوءة من القصص في النوعين.