فَقَالَ: يَا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ إِلَيِّ أُكَلِّمْكَ وَأَسْائَلْكَ عَنْ شَيْءٍ، فَأَقْبَلَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ رَأْسَا فَرَسَيْهِمَا وَضَعَ يَدَهُ فِي مَنْطِقَتِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: يَا أَبَا الْمُغِيرَةِ، أُنَشِدُكَ اللَّهَ أَنْ تُلِيمَ الْيَوْمَ.
فَقَالَ: يَا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، إِنِّي أَضِنُّ بِكَ مِنْ ذَاكَ.
ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأمَّنَهُ، وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: يَا ابْنَ عَمِّي، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَمِّنُكَ عَلَى كُلِّ مَالٍ وَدَمٍ أَصَبْتَهُ.
قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَازِ.
وَرُمِيَ مُصْعَبٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
فَأُثْخِنَ.
فَقَالَ لابْنِهِ عِيسَى: انْصَرِفْ.
فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ النِّسَاءُ.
قَالَ: فَتَقَدَّمْ أَحْتَسِبْكَ.
فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ قَتَلَ أَخَاهُ النَّابِئَ، فَدَنَا مِنْ مُصْعَبٍ وَقَدْ كَانَ أُثْخِنَ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ التَّقَدُّمَ، فَقَالَ لِفِتْيَانِ قَوْمِهِ: شُدُّوا. . . . مِنْ ظَهْرِي، فَتَقَدَّمَ وَمَا يُحَرَّكُ مُصْعَبٌ.
لَمَّا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ مُصْعَبٍ فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ إِلا رَجُلانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: يَحْيَى بْنُ مُبَشِّرٍ الْيَرْبُوعِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الأَشْتَرِ.
فَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَبَقِيَ مُصْعَبٌ وَحْدَهُ فِي نَفَرٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى عُقِرَ بِهِ عِيرُ فَرَسٍ، وَصَارَ يَقْعُدُ عَلَى كُرْسِيٍّ قَدْ وُضِعَ لَهُ، حَتَّى يَشُدَّ عَلَى الْقَوْمِ فَيَنْفَرِجُونَ لَهُ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْكُرْسِيَّ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لا يَصِلُونَ إِلَيْهِ دَثُّوهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى أَثْخَنُوهُ فَصُرِعَ، فَشَدَّ عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنُ ظَبْيَانَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى عَبْدَ الْمَلِكِ بِرْأَسِهِ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ الْبَجَلِيُّ:
نَحْنُ قَتَلْنَا مُصْعَبًا وَعِيسَى ... نَحْنُ أَذَقْنَا مُضَرَ التَّبْئِيسَا
وَقَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمُ رَئِيسَا وَتَنَقَّصَ رَجُلٌ مُصْعَبًا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ شِرِّيبًا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: «اسْكُتْ لا أُمَّ لَكَ.
فَلَوْ عَلِمَ مُصْعَبٌ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يُنْقِصُ مِنْ مُرُوءَتِهِ مَا شَرِبَهُ» .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَيُّ بَنِي الزُّبَيْرِ أَشْجَعُ؟ قَالَ: «مَا مِنْهُمَا إِلا شُجَاعٌ، وَمَا مِنْهُمَا إِلا مَنْ مَشَى إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَرَاهُ» .
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا لِخَاصَّتِهِ فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى عَيْبِ مُصْعَبٍ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ نَظْرَةَ كَرَاهَةٍ لِمَا قَالَ، وَقَالَ: أَمْسِكْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ صَغَّرَ مَقْتُولا صَغَّرَ قَاتِلَهُ قَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ: " أَشْجَعُ النَّاسِ ثَلاثَةٌ: ابْنُ الْكَلْبِيَّةِ، وَأَحْمَرُ قُرَيْشٍ، وَرَاكِبُ الْبَغْلَةِ، فَابْنُ الْكَلْبِيَّةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أُفْرِدَ فِي سَبْعَةٍ، وَأُعْطِيَ الأَمَانَ وَوِلايَةَ الْعِرَاقِ، فَأَبَى وَمَاتَ كَرِيمًا.