وليست مجرّدَ اجتهاداتٍ فرديّةٍ، فالمذهبُ تكوّن من مناقشاتٍ علميّةٍ بين مجموعةٍ عاشت في عصر مؤسّسِه، ثمّ مجموعاتٍ أخرى عاشت روحَ المذهب فتشبّعت بعقليّةِ صاحبِه، وآنست أنّها أقرب إلى منهجِ المذهب وفكرِهِ؛ فاقتنعت به حتّى حملته وحملها، فبنى اللاحقون على أقوال السابقين واستنبطوا من عباراتهم فهومًا وصورًا، وأخذوا بأصولهم وفروعهم جملة! حتّى صاروا ينطقون بلسانهم، ويفكرون بعقلهم، مع استقلاليّة في النظر للتوصّلِ إلى الأحكام، فلذا لم يخلُ الأمرُ من تفرّداتٍ في بعضِ المسائلِ ومعارضات، ووجدت بين الأئمّة مخالفاتٌ علميّةٌ ترفّعوا بها عن الخصومة والشقاق.
وقد بحث اللاحقون في أقوال السابقينَ منقّحين ومرجّحين ومستدلّين، فصارت المذاهب الأربعة بخدمة أربابها والمنتسبين إليها: مدارس علميّةً منهجيّةً، خدَمَها فحولٌ لهم عقولٌ كبارٌ على مرِّ التاريخ، وانتسب إليها أكابرُ من كلِّ أصقاعِ الأرض على غيرِ تواطئٍ بينهم محتملٍ على تركِ مصادرِ الشريعةِ والتمسكِ بالمذهب! فبطل زعمُ من أرادَ مِنَ الأمّةِ اليومَ نُفَرَةً عن المذهبيّة بحجّة الرجوع إلى مصادرها، وقيل له فكيف ترى أولئك الكبار أصحاب الحجى وأرباب الألباب وأولي النهى أقد ضلّوا حين تركوا ما تدعونا إليه اليوم فانتسبوا إلى إمام مجتهدٍ؟ أم أنّك بلغت مبلغًا فوق ما بلغوا؟ فهممتَ بما لم يهمّوا به بعدَ أن رأوا برهان ربّهم؛ فربط الله على قلوبهم.
إنّ الانتسابَ إلى هذه المدارس الفقهيّة يجعل المرء في تيارٍ من الخيرِ عريضٍ، يرى فيه حولَه المحدثين والمفسّرينَ والمتكلّمين والفقهاءَ، ويشهدُ رأيَهم وتأييدَهم فيزدادُ اطمئنانًا وثقةً بحُسنِ منهجِهِ وصحةِ اختيارِه.