أما الواقعة بعد "ما" فلا تستعمل إلا في النفي والتأكيد لا غير، نحو:(ما جاءني من أحد). وزعم الكوفيون أنها تزاد في الإثبات نحو:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}[الأحقاف: ٣١]؛ بدليل:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر: ٥٣].
وأُجيب بأن "مِن" للتبعيض؛ لأن مِن الذنوب حقوق العباد، والله عَزَّ وَجَلَّ لا يغفرها، بل يستوهبها إذا شاء. وقوله:{يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إنما هو في هذه الأُمة، وقوله في الآية الأخرى:{مِنْ ذُنُوبِكُمْ} هو في قوم نوح، فلم يتواردا على محل. ولو سُلِّم أنها أيضًا في هذه الأُمة فلا يبعد أن يغفر بعض الذنوب لقوم وجميعها لآخَرين.
الثامن: الفصل، نحو:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}[البقرة: ٢٢٠]، وتُعْرف بدخولها على ثاني المتضادين.
التاسع: مجيئها بمعنى "الباء"، وهو معنى قولي: (وَالْمَجِيءُ في التَّفْهِيمِ كـ "الْبَا")، أي: مجيء "مِن" لإفهام هذه المعاني كما تُفهمها الحروف المذكورة.
مثالها بمعنى "الباء" قوله تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}[الشورى: ٤٥]. قال يونس: أي: بِطرف. ويحتمل أنه من ابتداء الغاية.
العاشر: بمعنى "في"، كقوله تعالى:{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}[فاطر: ٤٠]، أي: في الأرض. كذا مُثِّلت، والظاهر أنها على بابها؛ لصحة المعنى بذلك.
والأحسن أن يمثل بما حكاه ابن الصباغ في "الشامل" عن الشافعي - رضي الله عنه - في قوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ}[النساء: ٩٢] أنها بمعنى "في"؛ بدليل قوله:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ}[النساء: ٩٢].