ثُم المراد بِـ "العِلم بالأحكام": التصديق بِتَعَلُّقها بأفعال المكلَّفين، لا تَصَوُّرها (لأنَّ ذلك مِن مبادئ أصول الفقه كما سيأتي)، ولا التصديق بثبوتها (لأنَّ ذلك مِن عِلم الكلام).
وإنما قُلْتُ:(عِلْم) بالتنكير، ولَم أُعَرِّفه باللام؛ لأنَّ التعريف إنما هو للماهية مِن غير اعتبار كميَّة مشخَّصاتها، ودخول اللام إنما هو لكمية عموم أو خصوص يُعْهَدُ. فإنْ أُرِيدَ بها الجنس فَلَم تُفِد زيادة، فلا حاجة لها؛ لأنَّ اللفظ المُنَكَّر هنا لَمْ يقصد به فَرْد مُبْهَم شائع، بل أُرِيدَ به مُطْلَق الحقيقة، وسيأتي الفَرْق بين المُطْلَق والنَّكرة.
وخرج بِقَيْد إضافة "العِلْم" لِلْـ "حُكْم" ما تَعَلَّق بالذات أو الصفة أو الفعل. وإنما لَمْ أَقُل "بالحكم" لأنَّ "عِلْم" يَتَعَدَّى بنفسه، فزيادة الباء تحتاج إلى تأويله بتضمين العلم معنى الإحاطة، أو غَيْر ذلك، وإنْ كُنتُ أتيتُ بالباء في تعريف "أصول الفقه" جَرْيًا على المشهور في العبارة؛ لِمَا حصل به مِن سهولة نَظْمه هناك.
وإنما لَمْ أُعَرِّف الحكم ولا قُلتُ "الأحكام" بالجَمْع؛ لِمَا ذُكِرَ في تنكير "عِلْم".
وأيضًا فلو أَتَيْتُ باللام:
١ - فإنْ كانت للاستغراق، فيخرج فِقْه الأئمة الذين أجابوا في مسائل بِـ "لا أَدْرِي"؛ فلا يَكُون التعريف جامعًا؛ فَقَدْ روى ابن عبد البر في مقدمة "التمهيد" أنَّ مالكًا سُئِل عن ثمانية وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها:"لا أَدرِي". وحكى العبادي (مِن أصحابنا) في فتاويه أنَّ أبا حنيفة سُئل عن خمس مسائل، فقال فيها:"لا أدْرِي": الخنثى الذي له آلة الرجال وآلة النساء، ووقت الختان، وأطفال المشركين، ومَن حلف لا يكَلِّم فلانًا دَهْرًا، وهل يَجوز للقَيِّم نقش جدار المسجد مِن غلة الوقف؟