نعم، لقائل أن يقول: الدليل المنفصل لا يُصَيِّر ما لا يفيد الظن مفيدًا للظن.
فإنْ أراد بالدليل المنفصل ما يعضد الاستقراء فالمفيد حينئذٍ مجموع الاستقراء والدليل المنفصل، لا الاستقراء بالدليل المنفصل، وإنْ أراد بالدليل المنفصل ما يدل على أنه مفيد للظن أو أنه حُجه فسنذكره مِن بَعد ذِكر المثال.
وقد مثَّله البيضاوي وغيره بقولنا: الوتر يُصَلَّى على الراحلة؛ لأنَّا استقرأنا الواجبات - القضاء والأداء من الظهر والعصر وغيرهما - فلم نَرَ شيئًا منها يُؤدَّى على الراحلة.
والدليل على أنه يفيد الظن أنَّا إذا وجدنا صُوَرًا كثيرةً داخلةً تحت نوع واحد واشتركت في حُكم ولم نر شيئًا مما نعلم أنه منها خرج عن ذلك الحكم، أفادتنا هذه الكثرة قَطْعًا ظَنَّ الحكم بعدم الأداء على الراحلة في مثالنا هذا من صفات ذلك النوع وهو الصلاة الواجبة.
ومنهم مَن استدل عليه بأن القياس التمثيلي حُجة عند القائلين بالقياس من الحكم الشرعي، وهو أَقَل مَرتبة مِن الاستقراء؛ لأنه "حُكم على جزئي؛ لِثبوته في جزئي آخَر"، والاستقراء "حُكم على كُلي؛ لِثبوته في أكثر الجزئيات"؛ فيكون أَوْلى من القياس التمثيلي.
ولكن هذا مدخول؛ لأنه يُشترط في إلحاق الجزئي بالجزئي الآخَر أن يكون بالجامع الذي هو عِلة الحكم، وليس الأمر كذلك في الاستقراء، بل هو حُكم على الكل بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته. ولا يمتنع عقلًا أن يكون بعض الأنواع مخالِفًا للنوع الآخَر في الحكم وإنْ انْدَرَجَا تحت جنس واحد.
وإذا كان مفيدًا للظن، كان العمل به لازِمًا، وربما استُدل على ذلك بما رُوي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر"(١) كما استدل به البيضاوي. لكنه حديث لا
(١) جاء في البدر المنير (٩/ ٥٩٠): (هذا الحديث غريب، لا أعلم مَن خرجه من أصحاب الكتب المعتمدة ولا غيرها، وسُئل عنه حافظ زماننا جمال الدين المزي، فقال: لا أعرفه).=