إذًا لامتناع حمل اللفظ هنا على الحقيقة لا بد من كونه مجازًا، لأننا اتفقنا على أنه مجاز، واستعمال الأسد في الرجل الشجاع حقيقة لأنه فرد من أفراده، فإذا انتفى هذا الاستعمال فليس عندنا إلا أن يكون المرد إلى العقل. ونقل الاسم المجرد ليس استعارةً، لأنه لا بلاغة فيه بدليل العلامة المنقولة، فلم يبقَ إلا أن يكون مجازًا عقليًّا، بمعنى أن العقل جعل الرجل الشجاع من جنس الأسد، وجُعْلُ ما ليس في الواقع واقعًا مجازًا عقلي، وعلى هذا مشى الناظم، ظاهر النظم أنه مجاز عقلي، والمراد بالمجازي العقلي التصرف العقلي، والتصرف العقلي محصور في شيء واحد وهو ادِّعاء أن المشبه فرد من أفراد المشبه به، هذا التصرف العقلي وليس بلغوي، ولذلك قال الناظم:(بِجَعْلِ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً أَوِّلَهْ).
(بِجَعْلِ ذَا)، (بِجَعْلِ) من؟ المستعير، جعل المستعير هنا من إضافة المصدر إلى مفعوله، (بِجَعْلِ) المستعير (ذَا ذَاكَ)، (ذَا) إشارة إلى أي شيء؟ المشبه (بِجَعْلِ ذَا) أي المشبه. (ذَاكَ) أي المشبه به. (ادِّعَاءً) أن المشبه داخل في جنس المشبه به - كما سبق -، واضح هذا؟ (بِجَعْلِ) أفضل [يَجْعَلُ](بِجَعْلِ ذَا) هو المشبه (ذَاكَ) المشبه به، حقيقةً؟ لا، ادعاءً يعني بالعقل بتصرف العقل، والدعوى هنا محلها العقل يَدَّعِي في نفسه أن هذا الرجل الشجاع فرد من أفراد الأسد، ثم يسحب الاسم عليه ويسميه باسمه، (أَوِّلَهْ) أي أول المستعير ادّعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، بأن جعل أفراد الأسد بطريق التأويل قسم (أَوِّلَهْ) يعني على جهة التأويل، فجعل أفراد مدلول الأسد قسمين:
متعارف، وغير متعارف.
ما هو المتعارف؟ الجثة المخصوصة.
غير المتعارف ما وجد فيه معنى الأسدية وهو الشجاعة.
حينئذٍ جعل اللفظ له مدلول وهو أفراده، وقسَّم الأفراد إلى نوعين:
- نوع متعارف فيه.
- ونوع غير متعارف فيه.
إذًا (أَوِّلَهْ) إلى قسمين:
- أحدهما المتعارف وهو الذي له غاية الجراءة في مثل تلك الجثة المخصوصة.
- والثاني غير المتعارف: وهو الذي له تلك الجراءة، لا في تلك الجثة والهيكل المخصوص.
يعني الإنسان الرجل الشجاع وُجِدَت فيه الجراءة ولم توجد الجثة، وذاك وجدت فيه الجراءة والجثة نفسها، حينئذٍ أفراد الأسد نوعان: متعارف، وغير متعارف. ولفظ الأسد إنما هو موضوع للمتعارف، فاستعماله في غير المتعارف استعمال في غير ما وُضع له، وهذا المراد بالتأويل، أنه قدر أن الأفراد على نوعين، والأصل في وضع لفظ الأسد للمتعارف، وغير المتعارف هذا جاء من جهة تصرف العقل، حينئذٍ استُعمل لفظ الأسد في المتعارف وهو حقيقة لغوية، وإذا استعمل في أفراد غير المتعارف حينئذٍ سُمِّيَ مجازًا لأن أرباب هذا القول يُسَلِّمُون بأن الاستعارة نوع من أنواع المجاز، ولفظ الأسد إنما هو موضوع للمتعارف، فاستعماله في غير المتعارف استعمال في غير ما وُضع له، والقرينة مانعة عن إيراد المعنى المتعارف بتعيين غير متعارف بها هذا المراد بقوله:(بِجَعْلِ ذَا ذَاكَ ادِّعَاءً أَوِّلَهْ).