للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فحين اكتفينا بالتعامل مع القرآن بالألسنة والحناجر، ولم نجتهد في الوصول بالقرآن إلى العقول والقلوب فإننا بذلك قد حرمنا أنفسنا من أهم جانب فيه، ومن سر إعجازه الأعظم .. فكانت المحصلة أننا اتخذنا القرآن مهجورا؛ لينتج عن ذلك الهجر هبوطنا لهذا الدرك، ليصدق فينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين» (١).

[فما الحل في هذه الإشكالية؟!]

مشكلتنا إيمانية، وحلها غاية في السهولة وهو حُسن الإقبال على القرآن .. والقرآن بين أيدينا، جاهز لتغييرنا، وإمدادنا بإيمان متدفق ليس له حدود، ومن ثم القضاء على الوهن والضعف الذي أصابنا وجعلنا معرة الأمم.

ومع ذلك الحل المُيسَّر لجميع أفراد الأمة إلا أن الكثير من أبنائها غير مصدق لهذه الحقيقة، ويرى أن هذا الكلام فيه مبالغة، وأن غاية الجهد والخدمة للقرآن هو الإكثار من الكتاتيب والمدارس والكليات لتخريج أكبر قدر من حُفَّاظ حروفه في أقل وقت ممكن، وحث الناس على كثرة قراءته والاجتهاد في ختمه مرات ومرات - وبخاصة في شهر رمضان - لنيل أكبر قدر من الحسنات فقط.

فإن ذكرتهم بأهمية التدبر والتأثر بالقرآن قال بعضهم: نريد أكبر قدر من الحسنات .. نريد دخول الجنة؛ والتدبر يعطلنا عن كثرة القراءة.

وقال البعض الآخر: فلتكن هناك ختمة للقراءة السريعة التي تهتم بتحصيل أكبر قدر من الحسنات دون فهم أو تأثر، وختمة للفهم والتأثر، ولا بأس - على حد قولهم - من أن نمكث مع ختمة التدبر سنوات وسنوات.

كل هذا وغيره يتردد بين الكثير من المسلمين، مما جعل أمر العودة الحقيقية إلى القرآن، والانتفاع به لحل مشكلتنا الإيمانية من الصعوبة بمكان.

ولكن حيث أنه لا بديل للأمة عن هذا الحل، فلا بد أن يستمر ويستمر التذكير بقيمة القرآن، وبالهدف الأسمى لنزوله، والذي لو اتضح أمامنا بصورة جلية، وأصبح إيمانًا مستقرًا في قلوبنا، فإنه - بلا شك - سيولد داخلنا الدافع القوي للإقبال على القرآن بصورة صحيحة لنلتمس منه الهدى والنور، أو بمعنى آخر، سيتحول اهتمامنا نحو تحقيق الهدف الذي من أجله نزل القرآن، وسنطوع الوسائل المختلفة - من قراءة وسماع وحفظ - لتحقيق هذا الهدف، فالإيمان بالقرآن والثقة الكبيرة فيه كمصدر متفرد للهداية والإيمان والتغيير هو نقطة البداية الصحيحة نحو العودة الحقيقية إليه، والانتفاع به.

فكما يقول الإمام البخاري: لا يجد طعمه إلا من آمن به (٢).

ويقول مالك بن دينار: أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه (٣).

فالذي يؤمن بالقرآن لا يسعه إ أن يتعامل معه تعاملا صحيحًا {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: ١٢١].

فإن قلت: ولكننا نؤمن بالقرآن ومع ذلك لا نجد طعمه ولا تأثيره.

ليس المقصد من الإيمان بالقرآن هو مجرد الإيمان بأنه «كلام الله، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته» (٤). بل المقصد بالإضافة لهذا الإيمان: الإيمان بقيمته وعظيم شأنه، وأنه نزل من السماء ليهدي الناس إلى الله، ويأخذ بأيديهم إليه ..


(١) رواه مسلم (١٨٩٤).
(٢) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم ص ٢٠٥.
(٣) الدر المنثور للسيوطي ٦/ ٢٩٨.
(٤) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص ٢١.

<<  <   >  >>