للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأراد عمر بن الخطاب أن يكتب السُّنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: «من كان عنده شيء فليمحه» (١).

وعن الأسود بن حلال قال: أُتى عبد الله (ابن مسعود) بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فمحاها، ثم أمر بها فأخرجت، ثم قال: أُذكِّر بالله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدار الهند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (٢).

وعن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد الخدري: ألا نكتب ما نسمع منك؟

قال: «أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يُحدَّثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنا نحفظ (٣).

هذه الأخبار وغيرها تعكس تخوف الصحابة الشديد من انشغال الناس بغير القرآن، فيحرموا أنفسهم من نوره العظيم، وأثره المبارك والذي لا يوجد له مثيل ولا بديل.

هذا التخوف جعلهم يتشددون في موضوع كتابة العلم و تقييده.

وهنا أمران لا بد من التنويه عليهما في هذا المقام: الأول خاص بالسنة ومكانتها، والثاني خاص بتقييد العلم وكتابته.

[منزلة السنة النبوية]

يقول عبد الفتاح أبو غده رحمه الله: فالسنَّة والكتاب توأمان لا ينفكان، ولا يتم التشريع إلا بهما جميعًا.

والسنة مبيَّنة للكتاب وشارحة له، وموضَّحة لمعانيه، ومفسَّرة لمبهمه، فهي من الكتاب بمنزلة الشرح له، يُفصّل مقاصده ويُتَّم أحكامه (٤).

وقد أتى رجل إلى عمران بن حصين رضي الله عنه فسأله عن شيء، فحدثه، فقال الرجل: حدثوا عن كتاب الله ولا تُحدَّثوا عن غيره.

فقال - عمران بن حصين - إنك امرؤ أحمق! أتجد في كتاب الله تعالى صلاة الظهر أربعا لا يُجهر فيها؟ ثم عدَّد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسرا؟! إن كتاب الله قد أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك (٥).

فالسنة من الكتاب بمنزلة الجزء من الكل، ولقد تعهد الله سبحانه بحفظ كتابه الكريم فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩].

وحفظ السنة من حفظ الكتاب ولا ريب، فهي محفوظة بحفظ الله تعالى لها (٦).

لماذا لم تدوَّن السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:

يقول د. مصطفى السباعي - رحمه الله:

لا يختلف اثنان من كتاب السيرة وعلماء السنة وجماهير المسلمين في أن القرآن الكريم قد لقى من عناية الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ما جعله محفوظا في الصدور، ومكتوبا في الرقاع، والسعف، والحجارة، وغيرها، حتى إذا توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن محفوظا مرتبا لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد.

أما السنة فلم يكن شأنها كذلك، رغم أنها مصدر مهم من مصادر التشريع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يختلف أحد في أنها لم تدون تدوينا رسميا كما دُون القرآن، ولعل مرجع ذلك إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش بين الصحابة ثلاثًا وعشرين سنة، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدوينا محفوظا في الصحف والرقاع من العسر بمكان، لما يحتاج ذلك إلى تفرغ أناس كثيرين من الصحابة لهذا العمل الشاق.


(١) جامع بيان العلم وفضله ١/ ٢٧٥ برقم (٣٤٥).
(٢) جامع بيان العلم وفضله برقم (٣٥٠).
(٣) جامع بيان العلم وفضله برقم (٣٣٩).
(٤) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث لعبد الفتاح أبو غدة ص ١٠، ١١.
(٥) المصدر السابق ص ١٥.
(٦) المصدر السابق ص ١٩.

<<  <   >  >>