للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما ما لا يعذر أحد بجهله، فهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدًا جليًا يُعلم أنه مراد الله تعالى.

فهذا القسم لا يلتبس تأويله، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ} [محمد: ١٩]، وأنه لا شريك له في إلهيته، وإن لم يعلم أن (لا) موضوعة في اللغة للنفي، و (إلا) للإثبات، وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر.

فما كان من هذا القسم لا يُعذر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه، لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة (١).

[المرونة في النص القرآني]

وهنا تجدر الإشارة إلى أن (العبارة القرآنية فيها من المرونة والسعة بحيث يفهمها العقل العربي في عصر نزول القرآن، كما يفهمها كل قارئ لكتاب الله في كل جيل، ويجد فيها ما يُشبع فكره ووجدانه معًا فهما فطريًا ميسرا) (٢).

وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:

العبارة القرآنية فيها مرونة تجعل معاني كثيرة تخرج منها أو تتحملها الآية وكان لا بد أن تكون في الصياغة هذه المرونة لكي تبقى وتكون ممتدة مع الزمن .. ففيها مرونة ظاهرة بحيث أنه إذا تكلم في التاريخ .. أو تكلم في شيء: تنزل العبارة لها نسيج معين بحيث يمكن أن يستقبلها العبقري ويغوص فيها، ويمكن أن يصل إليها العامي ويستقر عند حدودها الأولى .. فهذا من خصائص القرآن (٣).

ويضرب مثلاً لذلك فيقول:

فكلمة {لاَ رَيْبَ فِيه} وسعتني وأنا صغير: أفهم أن الريبة الشك وعدم الصحة، لكن وسعتني وأنا كبير أعرف الأصول التي يستند إليها الكلام لكي يكون مقبولا (٤).

الدليل الواقعي:

وهناك دليل واقعي واضح يؤكد على أن السبب لعدم انتفاعنا بالقرآن ليس هو افتقادنا للتذوق اللغوي.

هذا الدليل يتمثل في وجود نماذج كثيرة ممتدة عبر التاريخ الإسلامي من غير العرب ممن تعلموا اللغة العربية، فتأثروا بالقرآن تأثرًا بالغًا، وانتفعوا به انتفاعًا عظيمًا.

يقول أبو الحسن الندوي:

لا تَقِلُّ قصص العلماء والمشايخ الصالحين الذين ولدوا في العجم وكانت لغتهم غير العربية، في تذوقهم لتلاوة القرآن الكريم، وعنايتهم بحفظه، وشغفهم به، وانصرافهم كليا إليه، واستغراقهم فيه، لا تقل هذه القصص إثارة للرغبة وتأثيرًا في النفوس وعظة وعبرة عن غيرهم من الذين كانت لغتهم الأصلية هي العربية، ونجتزئ من مئات هذه القصص - فيما يلي - بعض الحكايات المؤثرة:

يذكر في سيرة الإمام المجدد أحمد السرهندي أنه كان يبدو عند تلاوته لكتاب الله تعالى، ويظهر على وجهه أن الحقائق القرآنية تفيض عليه، وأن بركاته تنسكب وفيوضه تنهمر، وكان إذا قرأ آيات العذاب أو الآيات التي جاءت بصيغة التعجب والاستفهام، تجاوب معها، وتكيف بها.

كان الشيخ فضل الرحمن الكنج مراد آبادي (م ١٣١٣هـ) يقرأ القرآن ذات يوم إذ غلبه الوجد (التأثر والاستغراق المشاعري الشديد مع الآيات)، فقال للشيخ السيد تجمل حسين: إن اللذة التي نجدها في القرآن، لو وجدتم منها ذرة، لما صبرتم على الجلوس مثلنا، ولخرجتم تمزقون ثيابكم إلى الصحراء، ثم قال: آه، ودخل حجرته ومرض لعدة أيام.

وقال ذات مرة: إن الصلة الحقيقية بالقرآن غاية السلوك والإحسان.


(١) كيف نتعامل مع القرآن العظيم ص ٢٠٢، ٢٠٣.
(٢) التعبير القرآني ص ٥٦٣.
(٣) كيف نتعامل مع القرآن، ص ٢٠٥ باختصار.
(٤) المصدر السابق ص ٢٠٦.

<<  <   >  >>