للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومما ساعد على عدم الإصغاء للخطاب القرآني أن المستمع في الغالب يكتفي بجو الروحانية، والشعور بالارتياح الذي ينشأ عند سماع أصوات المقرئين ينساب في المكان وكما أسلفنا فإن هذا الارتياح ناشئ عن جرس القرآن وجماله التوقيعي الذي لا نظير له، ولكنه للأسف لا ينُشئ إيمانًا، فالإيمان يحتاج إلى يقظة العقل وإدراكه للمعنى، مع استثارة العاطفة مع هذا المعنى ليستقر مدلوله في القلب فينشأ بذلك الإيمان.

القراءة بالألحان المحدثة:

ومما ساعد على إلف القرآن، وعدم الانصراف إلى المعنى هو القراءة بالألحان المحدثة التي ابتدعها بعض المقرئين.

يقول ابن رجب: هذه الألحان تهيج الطباع، وتلهي عن تدبر ما يحصل له من الاستماع، حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة، والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن.

وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن، لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد (١).

(فالقارئ يتفنن في النغم والتلحين، ويخرج عن سنن الترتيل، وقواعد التجويد، ويعيد الآية عند استحسان السامعين للنغمة وطلبهم الإعادة، والسامع يستخفه الطرب لا من معاني القرآن، بل من حسن التوقيع، وأفانين الألحان، فيصيح في نهاية الآيات بكلمات الاستحسان، والثناء على القارئ، والدعاء له، وطلب الإعادة منه (٢).

ولطالما طرقت أَذاننا ونحن نسير في الشوارع والطرقات أصوات بعض المقرئين وهم يقرؤون بهذه الألحان المحُدثة، والقراءات المختلفة لنفس الآية، ولطالما سمعنا كلمات الاستحسان التي تلقى إليهم والآهات التي تخرج من أفواه السامعين ..

سمعنا هذا ولا نزال نسمعه حتى ألفناه، وانصرفت عقولنا عن إدراك المعاني ..

* * *

ثالثًا: نسيان الهدف الذي من أجله نزل القرآن

إن الإنسان هو موضوع القرآن، بمعنى أن الهدف الأسمى لنزول القرآن هو هداية الإنسان وإصلاحه والسير به في الطريق المؤدي إلى رضا الله وجنته ..

ومن أجل تحقيق هذا الهدف جعلها الله رسالة موجزة مقارنة بما تحتويه من معان عظيمة، ليسهل حملها وقراءتها وحفظها.

ولكونها رسالة موجزة، وفقراتها قليلة الكلمات ثقيلة المعاني، كان من الضروري قراءتها بتأنٍ وتؤدة حتى يتمكن القارئ والسامع من فهم المقصود منها {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: ١٠٥].

ولأن وظيفتها في الهداية والتغيير تتطلب الزيادة المستمرة للإيمان في القلوب، كان الأمر الإلهي بترتيلها والتغني بها لتستثير بذلك العاطفة {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: ٤].

ولأنها تخاطب الناس جميعًا، فقد يسرها الله للقراءة، فلا تحتاج إلى أماكن محددة، أو أزمنة خاصة لتقرأ فيها: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: ١٧].

ولأن مستويات الناس وثقافاتهم ومداركهم مختلفة فقد جعل الله عباراتها مرنة تستوعب الزمان والمكان والأشخاص أيًا كان مستواهم ..

. ولأن الإنسان من طبيعته النسيان، وكذلك لتعرضه المستمر للمغريات والملهيات خلال يومه وليلته؛ كان من الأهمية بمكان أن يداوم على قراءة القرآن لتحدث له دوام التذكرة والتبصرة، وليُعَوِّض بالقرآن ما فقده من إيمان، وليس ذلك فحسب بل وليمد قلبه بالروح التي تجعله دومًا في إقبال على الله.

من هنا كانت التوجيهات النبوية المتعددة بكثرة تلاوة القرآن، وتعاهده كل يوم، وحتى لا تمل النفس كان رصد الجوائز والأجر العظيم لكل من قرأ حرفًا من القرآن ليستمر الحافز والدافع لديها للقراءة .. كل ذلك ليتحقق المقصود من اللقاء بالقرآن ..


(١) مجموع رسائل ابن رجب ٢/ ٤٦٣.
(٢) هجر القرآن ص ١٠٠.

<<  <   >  >>