للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومع هذه المتابعة والحث على تعاهد القرآن فإنه صلى الله عليه وسلم كان كذلك يتابع أثر القرآن على الصحابة ومدى تمثل ثمرته الحقيقية فيهم، ويكفيك في تأكيد هذا المعنى ذلك الحديث الذي يرويه جبير بن نفير عن أبي الدرداء أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء». فقال أحد الحاضرين وهو زياد بن لبيد الأنصارى: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه، ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا.

فقال صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما تغنى عنهم».

قال جبير بن نفير: فلقيت عُبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته الذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء. إن شئت حدثتك بأول علم يُرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعًا (١).

وخرج صلى الله عليه وسلم يوما على أصحابه فوجدهم في حلقة يقرؤون القرآن ويتدارسونه بينهم، ففرح بهم وقال: «الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود، اقرأوا القرآن، اقرأوا قبل أن يأتي أقوام يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه» (٢).

لقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على ألا تكون قراءة القرآن بالألسنة والحناجر فقط، فلكي يتم الوصال بين القلب والقرآن وينعكس ذلك على السلوك؛ لا بد من التفهم والتأثر والتجاوب مع الآيات، فإن لم يحدث ذلك، واكتفى المرء بالقراءة التي لا تتجاوز حنجرته فإن هذه القراءة ستكون في واد، بينما يكون عمله وسلوكه في واد آخر، وليس أدل على ذلك من هذ الواقعة:

بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مغانم حنين إذ قام رجل فقال: اعدل، فقال: «لقد شقيت إن لم أعدل» .. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناسا يجيئون، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .. » (٣).

إن أعظم أثر لقراءة القرآن هو انضباط السلوك، واقتراب الفعل من القول .. فإن لم يحدث دَلَّ ذلك على عدم الوصال القلبي بالقرآن، ولقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التحذير من ذلك، وعندما أخبر بالفتن التي ستمر بها الأمة، ربط ذلك بعدم الانتفاع بالقرآن، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم .. » (٤).

وعن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر شيئًا فقال: «ذلك أوان ينُسخ القرآن»، فقال رجل كالأعرابي: «يا رسول الله ما ينسخ القرآن؟، أو كيف ينسخ القرآن؟»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك يذهب أصحابه، ويبقى رجال كأنهم النعام»، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه على الأخرى، فمدهما يشير بهما، فقال الناس، يا رسول الله أو لا نتعلمه ونعلمه أبناءنا، ونساءنا»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد قرأت اليهود والنصارى، قد قرأت اليهود والنصارى» (٥).


(١) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٦٩٩٠).
(٢) رواه ابن حبان في صحيحه، وابن المبارك في الزهد.
(٣) رواه مسلم (١٠٦٣).
(٤) صحيح، رواه أحمد، وأبو داود وابن حبان، والحاكم وصححه.
(٥) أخرجه ابن المبارك في الزهد برقم (٧٥٣)، وقال الشيخ أحمد فريد: مرسل صحيح الإسناد.

<<  <   >  >>