للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل بدأ التوسع في فروع العلم المختلفة كعلوم الآلة (النحو -البلاغة- الصرف .. ) والتي من المفترض أنها وسائل مُعينة لخدمة العلم الأساسي النافع ألا وهو معرفة الله عز وجل وما يحبه ويرضاه، ومعرفة أحكامه، ومعرفة ما ينفع وما يضر. (١)

كل ذلك كان على حساب الاهتمام بالقرآن.

ومما ساعد على الانجراف في هذا الأمر النسيان التدريجي للهدف من نزول القرآن، وعدم أخذ تحذيرات الصحابة مأخذ الجد، واجتهاد البعض في تأويلها على أنها تعني فقط عدم خلط القرآن بغيره وهو لا يزال غضا طريًا.

النبع لم يعد واحدًا:

إذن فتطور الفكر الإسلامي بهذا الشكل كان له مردود سلبي على الاهتمام بالقرآن، والدليل على ذلك أن المساحة اتسعت بين الجيل الأول والأجيال المتتالية .. وفي هذا المعنى يقول سيد قطب:

كان هناك مقصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل - جيل الصحابة في فترة التكوين الأولى - على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده .. ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستقي من نبع آخر.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي الذي يتضمنه القرآن الكريم.

ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده، فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد.

ثم ما الذي حدث، اختلطت الينابيع! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم وأساطير الفرس وتصوراتهم، وإسرائيليات اليهود، ولاهوت النصارى، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات.

واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا.

وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا.

وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملاً أساسيًا من عوامل الاختلاف البيَّن بين الأجيال كلها، وذلك الجيل المتميز الفريد (٢).

ليست دعوة لترك العلوم الأخرى:

وليس المقصد من هذا الكلام هو الدعوة لترك العلوم الأخرى، والتراث الضخم الذي خلفته تلك الأجيال في شتى فروع الثقافة، والذي أفاد البشرية كلها، والذي استطاعت أوروبا أن تستثمره خير استثمار في بناء نهضتها الحديثة.

ليس هذا هو المقصد يقينًا.

بل المقصد من طرح هذا الموضوع دراسة الأسباب والعوامل التي أدت إلى انزواء دور القرآن في أذهاننا إلى هذا الحد الذي أصبحت فيه الصورة الذهنية المستدعاه عند الحديث عنه هي كيفية استكمال حفظه؟ .. كيفية التبرك به وتحصيل الأجر والثواب من خلاله؟!


(١) يقول ابن رجب في رسالة (فضل علم السلف على الخلف): أما ما أُحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علومًا، وظنوا أن من لم يكن بها عالما فهو جاهل أو ضال، فكلها بدعة، وهي من محدثات الأمور المنهي عنها، فمن ذلك ما أحدثه المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال لله، وقد ورد النهي عن الخوض في القدر .. ومن ذلك ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله وصفاته بأدلة العقول، وهو أشد خطرًا من الكلام في القدر، لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله تعالى وهذا الكلام في ذاته وصفاته تعالى.
وبعد أن عدَّد ابن رجب صورًا كثيرة للعلوم المحدثة الغير نافعة قال: وكل ذلك محدث لا أصل له، وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع. (انظر: فضل علم السلف على الخلف من ص ٢٤ - ٣٣).
(٢) معالم في الطريق ص ١٣، ١٤.

<<  <   >  >>