للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بعض المعجزات والدلائل على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم]

وقوله: (وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب) يعني: معرفة النبي جاءت بالآيات التي جاء بها، وبالمعجزات التي دلت على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، وهي كثيرة؛ لهذا قال: (فمن إخباره بأنباء الغيب) يعني: هذا شيء منها، وإلا فهي كثيرة جداً، منها: ما هو متصف به صلوات الله وسلامه عليه بنفسه من الصدق والأمانة ومراقبة الله جل وعلا، ومنها التحدي، فكونه يأتي إلى قوم كفار فيخالفهم في دينهم، ويخبرهم بأنه منابذ لهم ومعادٍ لهم على هذا الدين، وأنه يلزمهم ترك دينهم ومتابعته، فإن لم يفعلوا فإنه سوف يكون عذابهم في الدنيا والآخرة، ويتوعدهم على هذا وهو وحده، وليس معه سلطان ولا جيش ولا قوة، وحده يقوم أمام أمة تخالفه وتعاديه وتنابذه فيتحداهم بهذا الشيء، ويقول لهم: إنكم لن تصلوا إليَّ بسوء، إذا لم يرده الله جل وعلا بي.

وهكذا كانت الرسل، كما قال هود عليه السلام لقومه لما قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٤ - ٥٦]، وهكذا الرسل كلهم قالوا هذه المقالة، وآخرهم وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهذا دليل من أعظم الأدلة على صدقه حيث تبين ثقته وصدقه: ثقته بالله جل وعلا بتحدي هؤلاء الذين يعاديهم ويعادونه، ثم يخبرهم أنهم لن يصلوا إليه، وإذا قام أحدهم يريد به كيداً أو أذىً وتوعده وقال له: سوف أقتلك؟ يقول صلى الله عليه وسلم له: بل أنا الذي أقتلك، ثم يصبح خائفاً من هذا القول؛ لأنهم عرفوا صدقه، وعرفوا أنه لا يقول قولاً إلا ويرون صدقه.

ولهذا لما أنزل الله جل وعلا عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤] خشي صلوات الله وسلامه عليه أن يكون قصر في الإنذار والدعوة، فقام مسرعاً، وصعد على الصفا، وصار يهتف: (واصباحاه) وكانت عادة العرب إذا دهم الإنسان أمر قريب يقول كذا، فاجتمعوا إليه، والذي لم يأت إليه بنفسه أرسل من ينوب عنه من ولد أو أخ أو غير ذلك، فلما اجتمعوا قال لهم: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أخذكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبة واحدة) فهم كانوا يعرفون صدقه وأمانته.

ثم كذلك الآيات الأخرى، مثل: انشقاق القمر، فلما طلبوا منه آية انشق القمر، وصار فلقتين: فلقة من جهة الشمال، وفلقة من جهة الجنوب في السماء، فصار يريهم ويقول: (اللهم اشهد) ومع ذلك قالوا: هذا سحر، يا للعجب، السحر يصل إلى القمر؟!! لكنه التكبر والعناد والإباء.

وكذلك إجابة دعوته، فقد كان يدعو بالدعاء فيُستجاب.

وكذلك القرآن الذي نزل عليه، تحداهم -وهم أمراء البيان في البلاغة والفصاحة- أن يأتوا بأقصر سورة من سوره فلم يستطيعوا وعجزوا، والعاقل من الناس من لم تسول له نفسه أن يفعل شيئاً من ذلك؛ لأنه أمر لا يطاق، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:٨٨]، وهذا يدخل فيه بعضه ليس كله.

أما سخفاء العقول الذين تزين لهم شياطينهم، ويزين لهم توهمهم وطغيانهم في السيطرة والرئاسة إذا جاءوا بشيء من هذا صاروا أضحوكة للعقلاء، مثل ما فعل مسيلمة فقد ذكر ابن كثير رحمه الله وغيره من المؤرخين: أن عمرو بن العاص قبل أن يسلم كان صديقاً لـ مسيلمة، وأنه اجتمع به فسأله: ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة بليغة وجيزة، قال: ما هي؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر:١ - ٣] ففكر في نفسه قليلاً ثم قال: وأنا أنزل عليّ مثلها، قال: ما هي؟ قال: يا وبر يا وبر! إنما أنت رأس وصدر، وباقيك حقر نقر، ماذا تقول يا عمرو؟! قال: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب! فلم يكتف أن يخبر عن علمه هو، بل قال: أنت تعرف في نفسك أني أعلم أنك كاذب، يعني: أنك تكذب كذباً واضحاً جلياً، وهكذا كل من تحاول له نفسه أن يأتي بشيء من ذلك يصبح أضحوكة للناس، فهذا من أعظم الآيات التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن لا يعرف هذا على الوجه المطلوب إلا الذي يعرف لغة العرب، ويعرف الفصاحة والبلاغة.

ومنها: الأمور التي تقع على خلاف العادة التي أجراها الله جل وعلا في خلقه على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل: كون الماء القليل يكفي الجيش بأكمله، وخروج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وينبع منها كأنها عيون، فيشربون ويتوضئون من هذا الإناء، وكذلك الطعام القليل الذي يكون مصنوعاً لثلاثة فقط يكفي الجيش بأكمله، ثم يبقى كما هو كأنه لم يؤكل منه شيء إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وقعت له صلوات الله وسلامه عليه.

ومن المعلوم -عند كل إنسان له عقل يفكر- أن الذي يأتي إلى الناس ويقول: أنا نبي، أنه أحد رجلين: إما أن يكون أتقى الناس وأبر الناس وأصدق الناس وأقرب الناس إلى الله، أو يكون أكذب الناس وأفجر الناس وأبعدهم من الله جل وعلا، ولا يمكن أن يلتبس هذا بهذا، بل مستحيل أن يلتبس هذا بهذا؛ لأنه إما أن يكون صادقاً براً رسولاً حقاً، أو يكون كاذباً على الله، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر:٣٢] أي: قد تناهى في الظلم، وهذا معنى قوله: (وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب).

وقوله: (وأما ما دينك؟ فمن قولهم: ((اجعل لنا إلهاً)) يعني: أنه متقرر عندهم أن الدين مبني على وروده من الرسول صلى الله عليه وسلم، على الأمر والنهي، وليس بالاستحسان ولا بالعقل ولا بالأوضاع التي وجد عليها الناس، وهذا هو الذي يسأل عنه الإنسان في قبره، ويقال له: ما دينك؟ فإذا أجاب الإنسان، قيل له: وما يدريك أن هذا هو دينك؟ فإما أن يقول: وجدت الناس على شيء ففعلت مثل فعلهم، أو يقول: قرأت كتاب الله وآمنت به، فإن كان الأول: فهو الضال المرتاب الذي يعذب، وإن كان الثاني: فهو المؤمن، هذا هو معنى ما ذكره في هذا التنبيه.

قال الشارح رحمه الله: [وفيه: أن الشرك لابد أن يقع في هذه الأمة خلافاً لمن ادعى خلاف ذلك].

هذا مأخوذ من قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) والذين قبلنا وقعوا في الشرك، ووقعوا في أشياء كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بخبر فلابد من وقوعه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى.