والمقصود بالفطرة التي ذكرها في هذا الحديث -على القول الصواب الصحيح: أنها ما خُلق عليه الإنسان من حبه للدين وإيثاره وقبوله له، وكما أنه فطر على التقام ثدي أمه إذا خرج من بطنها فكذلك فطر على دين الله، فهي خلقة خلقه الله جل وعلا عليها، وخلقها فيه، وإنما يغير هذه الفطرة المربي الذي يربيه، فإذا تركت فإنه عارف قابل، وليس معنى ذلك أنه يخرج من بطن أمه عالماً بالإسلام عارفاً به، ولكنه مؤثراً له وقابلاً له ومستعداً لقبوله، بل يكون استكنانه به في قلبه ومحبته له مثل استكنان قبوله لثدي أمه، فهو مفطور على هذه الفطرة.
ولهذا إذا وقع الإنسان في كرب وفي شدة يهرع إلى ربه جل وعلا ويسأله، ويرفع يديه إليه متضرعاً داعياً مستغيثاً، فهذا من ناحية الفطرة وناحية النفس.
أما من ناحية الآيات المشاهدة في المخلوقات فهي كثيرة جداً: في الأرض، وفي السماء، وفي النبات، وفي الأنفس، وفي غير ذلك، وقد نبه الله جل وعلا على شيء من ذلك فقال:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت:٥٣]، والأمر في هذا واضح، وقال سبحانه:{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الذاريات:٢١] يعني: هناك آيات في الأنفس، ولهذا أكثر الله جل وعلا من تنبيه الناس إلى النظر إلى خلقهم، فقال:{فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}[الطارق:٥]؛ لأن هذه من أكبر العبر، وأكبر الأدلة على الله جل وعلا، فكون أصله ماء مهين، قطرة ماء ثم يخلق منها عظام وأعصاب ولحم، ويفتح له جوف فيه قلبه، وفيه الأشياء التي لا يمكن أن يكون للأب أو من الخلق في ذلك تصرف، ثم يكون بعد ذلك ذكراً أو أنثى، ويجعل فيه السمع والبصر والعقل وأشياء كثيرة، كل هذا ليعتبر الإنسان في خلقه، فإن فيه هذه الآيات الباهرة التي تدل على وجود الله، ولهذا نبه عليها جل وعلا.
وكذلك المخلوقات: في السماء، وفي الأرض، وفي اختلاف الليل والنهار، وفي النجوم، وفي الشمس، والقمر، والجبال، والسحاب، والمطر وغيرها، إذا نظر الإنسان إليها بعقله فإنه يتبين له ذلك، وجاءت الرسل بالوحي مؤيدة في هذا، ولهذا لما أعرض بعض الكفار عن رسلهم، وكذبوا ما قالوا لهم، قال لهم رسلهم:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ}[إبراهيم:١٠]، يعني: هذا أمر مسلم، فهذا معنى قوله:(أما: من ربك؟ فواضح) أي: جلي لكل عاقل يبصر ذلك أو يضطر إليه، ولكن الإعراض والتكبر والعادات قد يغفل الإنسان بسببها عن هذا.