قد يحتج بعض الناس بما ثبت في صحيح مسلم وغيره:(أنه جاء أعربي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن شرائع الإسلام فقال: أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤدى الزكاة، فصار يقبضها بيده، ثم قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تتطوع، فذهب وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها.
فقال: أفلح وأبيه إن صدق).
واختلف العلماء في الجواب على هذا الحديث، منها ما قاله ابن عبد البر، قال: هذا غلط من الراوي، والصواب: أفلح والله إن صدق، وقد جاء هذا في إحدى الروايات:(أفلح والله إن صدق)، فيكون قوله:(وأبيه) غلطاً من الراوي، ولكن هذا الجواب لا يتأتى إلا في هذا الحديث فقط, وقد جاءت أحاديث أُخرى غير هذا ولا يتأتى عليها هذا الجواب، ثم تغليط الراوي لا يصار إليه؛ لأنه لو كانت كل لفظة فيها مخالفة قلنا: غلط الراوي؛ لكان كل إنسان يقول ذلك إذا لم ترق له بعض الألفاظ.
الجواب الثاني: ما قاله الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: إن هذا كان يجري على ألسنتهم من دون قصد، وليس مقصوداً به الحلف.
والواقع أن هذا كلام باطل، فلا يجوز أن يكون ذلك جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادة الذين يحلفون بغير الله، فالله يحمي رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري على لسانه شيء من الباطل أو الشرك.
وهذا جواب باطل.
الجواب الثالث: أجاب بعض العلماء بأن هذا يراد به تأكيد الخبر ولا يراد به الحلف، كما كان على عادة العرب، وهذا أفسد مما قاله النووي، فهو أيضاً باطل، فلا يجوز أن يكون جرى على لسان رسول لله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا القبيل، ومعروف أن الحلف يراد به التأكيد بذكر المعظم الذي يستطيع أن يعاقب الكاذب إذا كان كاذباً، هذا هو مقصود الحلف.
الجواب الرابع -وهو الصواب الذي يجب أن يعتمد-: أن هذا الحديث وأمثاله منسوخ بالأحاديث التي ثبتت في الصحيحين: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقد جاء كثيراً أنهم كانوا يحلفون بآبائهم، ثم جاء النهي عن ذلك، فصار النهي ناسخاً؛ فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يحلف بأبيه، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فقال عمر:(والله ما حلفت بعدها بأبي لا ذاكراً ولا آثراً)، وكذلك جاء عن غيره، فهذا يدل على أنها منسوخة.