للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا يجوز الحلف بغير الله]

نحن ممنوعون أن نحلف بغير الله أو بصفة من صفاته كأن نقول: برحمة الله، بقدرة الله، وما أشبه ذلك من الصفات التي يجوز أن يحلف بها، ومن ذلك الحلف بكلام الله أو بالقرآن؛ لأن القرآن صفة من صفات الله، أو تقول: بالله أو بالرحمن أو بالحق، أو ما أشبه ذلك، أو تأتي بالواو؛ لأن أحرف القسم ثلاثة: الواو والباء والتاء، وفي لغة العرب أن التاء تختص بالله جل وعلا، تقول: تالله، وقد جاء هذا في القرآن: حيث يقول المشركون وهم في النار، يخاطبون الذين أشركوهم مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٩٧ - ٩٨] يعني: عندما سويناكم معه في المحبة؛ لأنهم لم يسووهم معه في الخلق والإيجاد والتصرف، هذا لا يعتقده أحد.

إذاً: الحلف يجب أن يكون بالله أو بصفة من صفاته، وأي حلف يكون بغير الله جل وعلا فإنه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، ولا يخرج من ذلك شيء من المخلوقات حتى المعظمة والمقربة لدى الله كالكعبة أو النبي أو جبريل أو الملائكة، فهذه كلها لا يجوز الحلف بها، وإنما يحلف بالله جل وعلا، وكثير من الناس يكثر من الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مخالفة صريحة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وقوله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

وهذا الباب قصد به المؤلف وجوب تعظيم الله وتقديره حق قدره كالأبواب السابقة؛ لأن الذي يحلف بالله كاذباً أو يحلف بغيره لم يعظم الله ولم يقدره حق قدره، ونحن ممنوعون أن نحلف بغير الله، فلا يقول قائل: إن الله جل وعلا يقسم بالمخلوقات، فالله جل وعلا لا حظر عليه، يقسم بما يشاء، ويفعل ما يشاء، ولكن نحن عبيد لله، يجب أن نمتثل أمره، وقد أكثر الله جل وعلا من القسم في القرآن بالمخلوقات كقوله جل وعلا: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:١ - ٢]، وقوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:١ - ٢]، وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:١]، وقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:١]، وقوله: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:١]، وقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:١]، وما أشبه ذلك.

ولكن الله جل وعلا يقسم بما يدل على قدرته، وأنه المتفرد بالخلق والإيجاد والتصرف، وله أن يقسم بما يشاء، أما نحن عبيده فعلينا أن نمتثل الأمر، وأن نكون عبيداً تحت أمره، مجتنبين نهيه، والذي يكثر من الحلف لا يسلم من الحنث، والحنث هو المخالفة لما حلف أنه لا يقع أو يقع لا يفعله أو يفعله، ومن أكثر من ذلك وقع في الإثم؛ ولهذا ذكر المؤلف هذا الباب ليحذر منه.

ثم إن هذا لا يدخل فيه لغو اليمين المذكور في قول الله جل وعلا: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:٨٩] عقدتم يعني: الشيء الذي أكدتموه وعقدتم القلب عليه هو الذي يؤاخذ به الإنسان، أما لغو اليمين فهو الذي يقع في كلام الناس عند مخاطباتهم كأن يقول: لا والله ليس كذا، أو بلى والله إنه كذا، ولم يقصد به الحلف، ولم يقصد به تأكيد الحلف، وإنما يقع في المخاطبات الجارية بين الناس، فهذا يسمى لغواً، والله جل وعلا لا يؤاخذ به، وإنما يؤاخذ بالشيء الذي يقصد أن يحلف عليه ويقسم، فتخبر بشيء أنه كذا أو تخبر أنك لا تفعل كذا، ثم تذهب وتفعله، فهذا هو الذي يؤاخذ بالمخالفة فيه، والمقصود في الحديث الآتي وجوب حفظ اليمين، وكذلك قول الله جل وعلا: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:٨٩].

واليمين بعضه أشد من بعض؛ ولهذا جاء أن من الكبائر اليمين الغموس، واليمين الغموس هي: التي تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وهو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، ومع هذا فالحلف بغير الله أعظم من اليمين الغموس كما قال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً.

لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أكبر من الكبائر، وكون الإنسان يحلف على أمر وهو يعلم أنه كاذب لا شك أن هذا يدل على ضعف إيمانه، وقلة مراقبته لله جل وعلا، فيكون توحيده إما ضعيفاً وإما معدوماً.