للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة السلام ومعناه وما يتضمنه هذا الاسم وتصاريفه]

قال: [قد تضمن (سلام عليكم): اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة! وحقيقته: البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب].

يعني: حقيقة السلام هو الرب جل وعلا، واسمه السلام يعني البراءة والخلاص والنجاة من كل عيب ونقص، فهو سالم من كل عيب ونقص، وفي ضمن هذا أن له الكمال؛ فإذاً هو نفي وإثبات، وهذا معنى قولهم: فيه سلب وإيجاب، فالسلب: هو نفي النقائص، والإيجاب: هو إثبات الكمال لله جل وعلا.

قال: [وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم].

جاء في الحديث أنه لا يتكلم على الصراط إلا الأنبياء، لأنه لما سأل أحد الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع له؟ قال: (أنا فاعل إن شاء الله، قال: أين أجدك؟ قال: عند الحوض، فإن لم تجدني عند الحوض فعند الميزان، فإن لم تجدني عند الميزان فعند الصراط، لا أعدو الثلاثة الأماكن هذه).

ثم ذكر أنه عند الصراط لا يتكلم أحد؛ وذلك من شدة الكرب والهول إلا الأنبياء، وكلامهم: (اللهم سلم سلم) فقط؛ لأن الأمر صعب جداً، يسيرون من فوق جهنم ويسقط فيها أكثر الناس، المسير من فوقها أمر شديد، فالإنسان لو سار من فوق سقف على خشبة منصوبة، أو ما يشابهها، أو أكثر من كونها خشبة، فقد لا يستطيع أن يسير، فكيف إذا سار وتحته جهنم وشدة حرها، وقعرها أكثر من سبعين سنة يهوي فيها.

أمر شديد جداً جداً، ومع ذلك نفس الصراط الذي يسار عليه يكون ملتهباً بالنيران؛ لأن تحته النار، ولهذا جاء أنه أحر من الجمر، ويكون مضطرباً أيضاً، فمعنى ذلك أن السير عليه بالأعمال فقط، وليس بالأقدام، فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا مستقيماً على صراط الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سوف يستقيم على ذلك الصراط الحسي ويسير عليه.

أما إذا كان مرة يكبو ومرة يستقيم في هذه الدنيا فيكون سيره كذلك وربما سقط.

وعليه أيضاً كلاليب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كشوك السعدان)، ثم يقول لصحابته: (هل رأيتم شوك السعدان؟ هو نبت يكون في نجد تأكله الإبل)، وهو معروف، وهي شوكة عقيفاء مفلطحة، ولكن هذه التي على الصراط لا يعلم عظمها إلا الله جل وعلا، تأخذ من أمرت بأخذه، وتلقيه في النار، فمخدوش ناج ومكردس في النار، ومرة يحبو، ومرة تسقط رجله، ومرة يتعلق بيد، ومرة يسير.

وأخبر أن مرور أولهم يكون كلمح البصر في سرعته، ومنهم من يكون كلمح البرق في السرعة، ومنهم من يكون كالريح، ومنهم من يكون كأجاود الخيل، ومنهم من يحبو مرة ويمشي مرة، ثم تعجز أعمال الناس عن حملهم ويتساقطون في النار، نسأل الله العافية، فهؤلاء كلهم من أهل التوحيد ولكنهم مخلطون، تركوا واجبات وفعلوا محرمات، ولم يكفهم ما مضى عليهم في القبر وفي الموقف في التطهير والتكفير، فلابد أن يطهروا بنار جهنم.

ومنهم من يحترق نهائياً، إذا سقط احترق وصار حممة، وهذا جاء في الحديث أنهم فيما بعد يحملون حمماً قد احترقوا فيلقون في نهر الحياة من أنهار الجنة، فينبتون ثم يدخلون الجنة، ويزول العذاب كله، ويرون النعيم والحياة السعيدة، ومن نجا من النار ولو بعدما احترق فيها فهو سعيد.

قال: [ومنه سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده].

لو تحقق الإنسان هذه الأمور بأنها ستمضي عليه يقيناً، لاستقامت حالته؛ ولكنه يستبعدها وكأن المراد غيره، وهي حقيقة لابد منها، فالعجيب في ابن آدم غفلته وأمله وتفكيراته، ولو قدر مثلاً وقيل للناس: إن واحداً منكم سوف ينجو من العذاب، فكل واحد من الكثيرين يؤمل أن يكون هو الناجي، وهذا أمل عجيب من هذا الإنسان، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ولخرجتم في الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) يعني: الغفلة والأمل، فلو قدر الواحد أنه سيموت، وهو يعلم أن الموت فيه انقطاع عن العمل، فقال: وأنا لابد أن أعمل للآخرة، بالشيء الذي يرضي الله جل وعلا، لأنه كثيراً ما يأتي الإنسان الموت فجأة، وموت الفجأة تعوذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من موت الفجأة)، وإن جاء في بعض الأحاديث أنه راحة للمؤمن، ولكن فيه أنه قد يأتي الإنسان ولم يتمكن من التفكير في نفسه، ولم يوص وغير ذلك، مع أنه يجب على الإنسان أن يوصي دائماً.

قال: [وقد تضمن سلام عليكم: اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة: وحقيقته البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: (رب سلم سلم)، ومنه: سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:٢٩] أي: خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره، ومنه السلم ضد الحرب؛ لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا بني فيه على المفاعلة، فقيل: المسالمة مثل المشاركة، ومنه: القلب السليم وهو النقي من الدغل والعيب.

وحقيقته: الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فهو مستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته.

وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام، فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه، ليس له فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه، وللمشرك به].