النبي بالمؤمنين رءوف رحيم، وهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم يحمي جناب التوحيد، حتى لا يدخل على المؤمن شيء مما ينقص التوحيد أو يذهبه أو يذهب بكماله؛ لأن هذه كلها من مقتضيات العذاب، وقد جاءت الأحاديث عنه صلوات الله وسلامه ببيان هذا المعنى، كما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علماً، وفي صحيح مسلم أنه قال:(إنه حق على كل نبي بعثه الله جل وعلا أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن كل شر يكون فيه عنتهم) أو نحو ما قال صلوات الله وسلامه عليه، وفي الحديث الذي في الصحيح أيضاً أن يهودياً قال لأحد الصحابة: نبيكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة، يقصد بذلك آداب التخلي والاستنجاء، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم:(إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فليستجمر بثلاثة أحجار)، وكان يأمر من أراد قضاء الحاجة أن يبعد، وأن يستتر، ومن الآداب ألا يتجه إلى الهواء حتى لا ترجع عليه النجاسة ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إني بمنزلة الوالد لكم، أعلمكم ما ينفعكم)، فهو صلوات الله وسلامه عليه ما ترك شيئاً ينفعنا إلا وعلمنا إياه، وهذا مقتضى كونه حريصاً على هدايتنا، وكون ما يعنتنا شديداً عليه، ويشق عليه، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه بالمؤمنين رءوف رحيم، فوجه الدلالة من الآية ظاهر جلي، فلا بد أن يكون حرصه على بيان التوحيد وعلى بيان الشرك الذي هو أعظم الذنوب أشد من حرصه على كونه صلى الله عليه وسلم يعلم الأمة أدب التخلي، وأدب الأكل، وأدب الشرب، وأدب النوم، وأدب الجلوس، وأدب دخول المنزل، وغير ذلك، وهذا كله ثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه.
فهل يعقل أنه يبين هذه الأمور التي لو تركها الإنسان ما يقتضي تركه أن يعذب، ويترك الأمر الذي لو فعله الإنسان ترتب على فعله عذاب؟ هذا لا يعقل، لا بد أنه صلوات الله وسلامه عليه اعتنى بذلك، أما الذين فتنوا بعبادة نظرائهم وأمثالهم من الخلق، وصارت قلوبهم فارغة من تعظيم الله وتقديره؛ فإنهم يتلمسون ما يكون دليلاً على الشرك، ويبحثون عنه، ومن المعلوم أن الإنسان إذا فتن فإنه يعمى عن الحق، ويفتح عينيه على الباطل، ويصبح قابلاً لما يهواه، ومبغضاً لمن ينهاه عما هو فيه، غير قابل له؛ ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أننا إذا رأينا الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله أن نحذرهم، وأخبرنا ربنا جل وعلا أنه أنزل {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[آل عمران:٧] وقد جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها- أنه قال:(إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم) مع أن القرآن ليس فيه شيء يدل على الباطل، ولكن فيه شيء مجمل قد يحتمل أمراً باطلاً ولو من بعيد، فيتعلق به من كان مفتوناً.
كما أنه جل وعلا أخبرنا أن الذي في قلبه مرض الشبهات فإن الحق لا يزيده إلا ضلالاً ويتمادى في الباطل {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}[البقرة:١٠]، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:١٢٤ - ١٢٥].
إذاً: من كان عنده مرض شبهة فإنه يزداد ببيان الحق وإيضاحه ضلالاً وتمادياً في باطله، وذلك أن الحجة تزداد قياماً عليه، فيستحق من العذاب أكثر؛ ولهذا تجدهم يتعلقون بأمور تافهة، وأمور واهية، بل بأحاديث مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفرحون بها إذا وجدوها، وقد يجرؤ بعضهم على تصحيحها ويقول: إنها صحيحة، وقد يجرؤ بعضهم على وضع الأسانيد لها كذباً وزوراً، فكيف مقامه أمام الله جل وعلا؟ كل ذلك لما زين في قلبه ونظره من عبادة غير الله، نسأل الله العافية! ومثل هؤلاء ليس البيان والإيضاح لهم، البيان والإيضاح يكون لمن يريد الحق، فالذي يلتبس عليه الحق وهو يريد الحق ينتفع بالإيضاح والتبيين، أما من كان قلبه ملبساً بالفتنة وقابلاً لها فإنه لا يزداد بذلك إلا غياً وتمادياً في الباطل.