[ترجيح المنع من تعليق التمائم ولو كانت من القرآن]
قال الشارح رحمه الله: [اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
قلت: هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل: الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم.
الثاني: سد الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
الثالث: أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المعلق؛ لحمله معه في حال قضاء الحاجة، والاستنجاء ونحو ذلك.
وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف رضي الله تعالى عنهم يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصاً إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور، واتخاذ المساجد عليها، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:١٠٦ - ١٠٧] ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر].
مقصده بهذا القول، أنه إذا كانت التمائم منعت لكونها تعلقاً بغير الله جل وعلا، وجعلت من الشرك؛ فكيف بمن يذهب إلى القبور، ويدعو أصحابها، أو يعكف عندها طلباً للبركة من تربتها، أو ممن سكنها، وهم رفات رميم مرتهنون بأعمالهم، أو يذهب يطوف بها تعبداً وتقرباً، أو يظن أن العبادة عندها أفضل من عبادة الله عند غيرها؟! فإن كل هذا إما شرك أو وسيلة للشرك الأكبر الذي يكون منافياً للتوحيد، فالتوحيد يكون بأن الإنسان لا يتعلق بغير الله جل وعلا، ويخلص اتجاهه وعمله لله وحده، في فعله وفي نيته ومقصده، والذي يكون بهذه المثابة هو الذي يكون مخلصاً، ويكون سالماً من التعلقات بالمظاهر الأخرى سواء كانت تمائم أو غير تمائم.
ويقول: إن هذا الموحد يكون غريباً؛ لأن هذه الأمور من التعلق بالقبور وقعت حتى من بعض العلماء الذين هم قدوة، فإذا كان هذا يقع منهم فكيف بالعامة؟! وهذا مما يجعل الدين الإسلامي غريباً، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ)، ومعلوم أنه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ثم كان الناس يدخلون في الإسلام واحداً بعد آخر.
وفي هذا الحديث جاء ذكر ثلاثة أشياء: الرقى والتمائم والتولة، وقد فسرت في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود راوي الحديث، وأخبر أن الرقى والتمائم معروفة، وهي كل رقية بقراءات وتعويذات سواء كانت بأسماء الله أو آياته أو بغير ذلك، فهذا يطلق عليه أنه رقية، ولكن الشرك هو ما كان فيه تعوذ بغير الله جل وعلا، أو فيه طلب شفاء لمرض نزل أو لشيء يتوقع من غير الله جل وعلا.
وأما التمائم: فهي الحروز التي يكتب فيها أو بدون كتابة، سواء كانت توضع على موضع معين كاليد والرجل أو الرقبة، أو يؤتى بالحرز ويوضع في الجيب أو غير ذلك، وسواء كانت فيه كتابة أو ادعي أنه بطبعه وخاصيته يدفع وينفع.
والتولة نوع من السحر، وهي التي تسمى بالعاطف، يعني: يعطف الإنسان على غيره بأن يحببه إليه، ولا سيما بين الزوجين، فإن هذا معروف إلى اليوم، تصنعه المرأة وتزعم أنه يعطف زوجها عليها، ويجعلها محبوبة له، وهو نوع من السحر.
والسحر لا يكون إلا بواسطة الشياطين، وله تأثير في الأبدان وفي الأفكار والعقول، قد يفسد العقل وقد يفسد البدن وقد يقتل، ولكنه كما قال الله جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:١٠٢]، فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، وهو صنعة يمكن تعلمه، ولكن بواسطة الشيطان وهو أنواع كثيرة، وكل نوع منه محرم، وسيأتي وصفه والكلام فيه في باب مستقل، وكذلك العلاج منه والذي يسمى بـ (النشرة) سيأتي له باب مستقل.
فهذه الأمور الثلاثة أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنها شرك، والشرك هو أعظم الذنوب على الإطلاق، كما أخبر الله جل وعلا أن كل ذنبٍ تحت مشيئته قد يغفره إذا شاء إلا الشرك، فإن الله لا يغفره لمن يموت عليه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:٤٨]، فالمشرك الذي يموت على الشرك هو في النار قطعاً بدون استثناء.
والشرك أنواع: منه الشرك الأكبر، ومنه الشرك الأصغر، والشرك الأصغر كيسير الرياء، وكالحلف بغير الله جل وعلا، ومثل هذا إذا مات الإنسان عليه لا يكون من أهل النار، ولكنه يأثم، ويستحق أن يعاقب؛ لأن هذا أعظم من الكبائر، أعظم من الزنا، ومن السرقة كما قال العلماء، ومع ذلك لا يخرج الإنسان من دين الإسلام.
والتمائم سبق أنها سميت تمائم أخذاً من أنه سيتم مراد الواضع لها، فهي سميت بذلك من باب التفاؤل، يعني: تفاءلوا عندما وضعوا هذا الشيء بأنه سيتم مقصود الواضع لدفع الأذى أو لجلب النفع، فمن هذا المعنى سميت تميمة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له)، وسبق أن هذا إما أن يكون دعاء وإما أن يكون خبراً، وكلاهما يدل على نقيض مراد الواضع لذلك؛ وذلك أن من وضع التميمة فإن قلبه قد تعلق بغير الله، والتفت إلى غيره، وهذا نوع من الشرك، ونوع من رجاء النفع من المخلوق، والتعلق به، والنفع والدفع لا يكون إلا من الله جل وعلا، فهذا هو وجه كون التميمة شركاً.
أما الرقية: فإنها إذا كانت بتعوذ بالشياطين أو بالملائكة أو بالأولياء والصالحين الغائبين أو الميتين الذين لا يقدرون على أن يوصلوا إليه ما طلب منهم، أو يعيذوه مما استعاذ منه؛ فإن هذا من الشرك.
وإذا كانت الرقية بآيات الله وأوصافه جل وعلا فهي مستحبة كما سبق، وقوله: خص الدليل منها ما كان بآيات الله وأوصافه فإنه جائز، بل هو مستحب، وأما التميمة التي فيها القرآن أو صفات الله جل وعلا فقد اختلف فيها العلماء على قولين: أحدهما: أنه جائز بالشروط التي ذكرها السيوطي وقال: إنها بالإجماع، وهي ثلاثة: الأول: أن تكون بآيات الله وأسمائه.
الثاني: أن تكون بكلام عربي معروف المعنى.
الثالث: أن يكون الذي وضعها يعتقد أنها لا تؤثر بنفسها، وإنما المؤثر هو الله جل وعلا.
فذكر أن عبد الله بن عمرو بن العاص يريد هذا النوع، وقال: إنه ظاهر ما روي عن عائشة، وجمهور السلف والتابعين على أنه لا يجوز، ورجح هذا بأمور ثلاثة: أحدها: أن الأدلة مطلقة لم تخص شيئاً من ذلك، فمن ادعى الخصوصية فعليه الدليل، ولا دليل على هذا.
الأمر الثاني: إذا قيل بالجواز فإنه يجر إلى ما لا يجوز، فيكون وسيلة إلى المحرم، والوسائل لها أحكام المقاصد، إذا كان المقصد محرماً فالوسيلة محرمة، وإذا صارت النتيجة تئول إلى شيء محرم، فالسبب أن الذي يجر إليها يكون حراماً، وهذه قاعدة معروفة قررها العلماء، وقد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه القاعدة كقوله جل وعلا: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨] يعني: لا تسبوا أصنامهم وتذموها وتعيبوها؛ فإنهم إذا سمعوا ذلك سبوا إلهكم الذي هو الله، فنهوا عن هذا من أجل ما يئول إليه.
وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ل عائشة: (لولا أن قومك حديثي عهد بالشرك لنقضت الكعبة، وجعلتها على أساس إبراهيم، وجعلت لها باباً لاصقاً في الأرض من الشرق، وآخر من الغرب؛ لأن قومك لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة، ورفعوا الباب حتى لا يدخلها إلا من يريدون) فذكر أن ذلك كان فيه مصلحة، وأمر محبوب، ولكن منعه من ذلك كون المشركين حديثي العهد بالشرك، فخاف أنه إذا نقضها صار ذلك فتنة لهم، فترك ذلك، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على هذه القاعدة.
الأمر الثالث: أن المعلق لا يخلو من الامتهان، كأن يستنجي الإنسان وهو عليه، أو يدخل به الحمام ليقضي حاجته، وما أشبه ذلك، ولا سيما إذا كان على طفل أو إنسان لا يفقه، فإنه لا يخلو من هذا.
فهذه الأمور الثلاثة رجح بها المنع، يقول: وهو مذهب جمهور العلماء، وهذا أحوط للإنسان، وأسلم لدينه، فالإنسان إذا توكل على الله واعتمد عليه فإن الله جل وعلا يكفيه ويشفيه من كل ما يقع فيه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢].
قال الشارح: [قوله: التولة، فسرها ابن مسعود راوي الحديث كما في صحيح ابن حبان والحاكم قالوا: يا أبا عبد الرحمن! هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء، يتحببن به إلى أزواجهن.
قال الحافظ: التولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففاً، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهي ضرب من السحر، والله أ