للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الزيادة في المشروع قد يؤدي إلى الشرك]

والمقصود بهذا: أن يتبين لنا أن سبب الوقوع في الشرك، هو زيادة المشروع من الحب في الصالحين وتعظيم الصور.

وهنا ما ذُكِرت القبور، وإنما ذكرت هذه القضية، والفتنة في القبور ليست بأقل من الفتنة في الصور، بل هي أعظم، ولهذا أبدى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاد، وأكثر من القول والتحذير في المبالغة فيها، بل حرَّم أن يصلي الإنسان عند القبر صلاة لله، وأمر أن تسوى القبور بالأرض، وألَّا يُبنى عليها، وألَّا تُجصص، وألَّا تُسرج، ولعن من فعل ذلك.

وليس هذا كما يقول بعض الفقهاء الذين يقولون: إن تحريم الصلاة في القبور هو لأجل النجاسة، فإن هذا كلام من لا يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنما جاء النهي عن الصلاة عند القبور خوف الافتتان بها، خوف أن تكون الصلاة لها، كما ذكر ابن القيم هنا: أن التدرج فيها كان على مراحل، فيقول: إن الناس في هذا تدرجوا شيئاً فشيئاً فصاروا خمس درجات، ينقلهم الشيطان من درجة إلى درجة، إلى أن وصل بهم الدرجة الخامسة: الدرجة الأولى: أنه دعاهم إلى تعظيمها، والبناء عليها، ووضع الستور لها، والكتابة عليها: هذا قبر فلان بن فلان الفلاني، وللأسف لأن مثل هذا يقع من بعض العلماء، فإنهم يكتبون في تراجم الأموات -يقول بعضهم: وإن كانوا لا يقصدون الدعوة إلى عبادة القبور؛ ولكنها صارت دعوة في الواقع-: إجابة الدعاء عند قبر فلان مجربة، وهل إذا سمع الإنسان مثل هذا يتركه؟

الجواب

لا، فإذا كان مجرب الإجابة فإنه يقول: سأذهب وأدعو؛ لأن الدعوة مجابة عند هذا القبر، وربما كانت الإجابة قدراً قدره الله، فقد يذهب جاهل من الجُهَّال -ولما في قلبه من تعظيم الموتى ذهب في ذلك المكان يظن أنه أرجى إجابة من المسجد الذي هو بيت الله- فيدعو ويحصل له مراده، فينتشر هذا بين الناس، ويصير فتنة لمن لم يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإسلام، ويقول الناس بعد ذلك: إن قبر فلان الفلاني يُعظَّم ويُزار، وهذا كثير جداً في تراجم العلماء، حتى إنك لا تكاد تجد كتاباً من الكتب التي تكتب في التراجم إلَّا وكتب هذا فيها، إما تساهلاً وإما غير ذلك.

والواقع أنه لا يجوز أن يُتساهل في هذا؛ لأنه صار سبباً لعبادة هذه القبور، وهو أمر عظيم جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر منه، حتى إنه يوجد في بعض الكتب: قبر فلان الترياق المجرب، كما قيل ذلك في قبر معروف الكرخي، وللأسف أن هذا يُكتب ويطبع ويُنشر في الناس (والترياق) يعني: الدواء الناجع المفيد الذي جُرِّب فنفع، وكذلك إذا ترجم بعضهم لإنسان يريد نشر فضائله وما أشبه ذلك يقول -مثلاً- مما روي عن جنازته: تزاحم عليه الناس فصاروا يتبركون بكفنه، ويتلمسون البركة من ذلك، ولكن هذا كان في الأزمنة المظلمة بعدما اختلط الحابل بالنابل، وقد لا يسلم من هذا أحد حتى من الأئمة؛ مثل الإمام الشافعي رحمه الله ومثل الإمام أحمد ومثل الإمام أبي حنيفة وغيرهم، يوضع عليهم من هذا القبيل أشياء.

ثم صار لهذا المبدأ قوم يتبنونه ويدعون إليه، ويكتبون الكتب فيه، ولا تزال الكتب تكتب وللأسف في هذا؛ لأن كل قوم لهم وارث، فالصالح له من يرثه، والطالح الفاسد له من يرثه، فبعضهم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغاث به كما يستغاث بالله، فكل شيء تستغيث فيه بالله يجوز لك أن تستغيث فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يقول: قوله جل وعلا: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:٩] المقصود: وتسبحوا الرسول! هكذا يقولون ويكتبون في الكتب يقولون فيه: سبحانك، إلى هذا الحد! والذي يقول هذا ما هو جاهل من العوام، لا، بل هو من العلماء الذين يكتبون الكتب وينشرونها، ويكونون قدوة لبعض الناس.

ثم تمادى الأمر إلى غيره صلوات الله وسلامه عليه فصاروا يقولون: يجوز أن تتوسل بالصالح، بل يستحب أن تتوسل بالصالحين، بل بعضهم قد يوجب ذلك! والصالح من هو؟ يعينون ناساً الله أعلم هل كانوا صالحين أو طالحين، وما هو التوسل؟ التوسل أن تذهب إلى قبره وتدعوه، وتقول: يا فلان! أنا أتوسل بك في كذا وكذا، وأريد أن تتوسط لي عند الله، تخاطبه!