[شرح قوله تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:١٧]].
سبق بيان معنى قول الله جلَّ وعلا: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:١٠٦ - ١٠٧] ثم أضاف إلى ذلك بعض الآيات، ومنها: قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:١٧] ففي هذه الآية يبين جلَّ وعلا أن الطلب هو المسألة ومنه: طلب الرزق، والرزق من الله جلَّ وعلا وحده، وعطف العبادة على ذلك مما يدل على أنه عبادة، ولهذا قدم المعمول مما يقتضي الحصر: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:١٧] وهذا يدل على وجوب ابتغاء الرزق عند الله فقط، ولا يجوز أن يُطلب من غيره؛ لأنه جلَّ وعلا هو رب العباد، وهو الذي يتولى أرزاقهم وحده، فهذا يدل على أنه عبادة، فطلب الرزق من الله عبادة يثاب عليه، وطلبه من غيره يكون شركاً بالله جلَّ وعلا، وليس معنى ذلك أن اتخاذ الأسباب التي يرتبها ربنا جلَّ وعلا على المسببات شركاً وإن كان كل شيء بأمره؛ ولكن لا يجوز للإنسان أن يعتمد على السبب ويظن أنه هو المؤثر، وهو الذي يتحصل به ما يطلبه، وإنما يفعل السبب لأن الله جعله سبباً، ولو شاء جلَّ وعلا لعطَّله، ولم يأتِ الأثر الذي يترتب عليه إلا بمشيئه جلَّ وعلا.
والمقصود أن الإنسان يفعل السبب الشرعي الذي أمره الشرع به، ويعتمد على الله جلَّ وعلا في حصول المطلوب، وكثيراً ما يتخلف المسبَّب عن سببه إذا أراد الله جلَّ وعلا ذلك.
إذاً: فقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:١٧]: الابتغاء هو الطلب، ويكون بالمسألة، ويكون بالفعل، ويكون باتجاه القلب، وهذه الأشياء تجتمع عند الإنسان المؤمن: فيتجه قلبه إلى ربه ويسأله التوفيق، ويفعل السبب، ويحتسبه ثواباً عند الله جلَّ وعلا يجزيه على ذلك.
قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:١٧]: هنا عطف عام على خاص كما سبق في الآية الأولى أن العبادة أعم من ابتغاء الرزق، فابتغاء الرزق جزء من العبادة، والعبادة: ((وَاعْبُدُوهُ)) تكون من عطف العام على الخاص، فهذه نظير الآية الأولى، وهي تدل على وجوب حصر الدعاء في الله جلَّ وعلا، سواءً كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة، والآية في دعاء المسألة واضحة، أنه أمر بابتغاء الرزق عند الله.
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} [العنكبوت:١٧] يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق عنده وحده دونما سواه، ممن لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً، فتقديم الظرف يفيد الاختصاص، وقوله: ((وَاعْبُدُوهُ)) من عطف العام على الخاص؛ فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها.
قال العماد بن كثير رحمه الله تعالى: ((فَابْتَغُوا)) أي: فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:١٧] أي: لا عند غيره؛ لأنه المالك له وغيرُه لا يملك شيئاً من ذلك.
((وَاعْبُدُوهُ)) أي: أخلصوا له العباده وحده لا شريك له، {وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:١٧] أي: على ما أنعم عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} [العنكبوت:١٧] أي: يوم القيامة سيجازى كل عامل بعمله].
ومما يستفاد من الآية أيضاً: أن الرزق الذي ينعم الله جلَّ وعلا به على عباده يجب أن يكون عوناً على الطاعة، فإن لم يستعمل لذلك فإن الإنسان مستحق لعذاب الله جلَّ وعلا، ويكون وضعه غير صحيح؛ لأنه لم يُخلق لذلك، وإنما خلق ليعبد الله ويستعين به على ذكر الله جلَّ وعلا وطاعته، والوضع الذي يكون على غير ذلك ويكون على غير أمر الله مسخط للرب جلَّ وعلا، فيجب على العباد عموماً، أن يكون هذا وضعهم وهذه حالتهم، وأن يكونوا في حال حصول الرزق متعبدين به لله جلَّ وعلا طائعين به لله، متقوين به على التقرب إليه، وهذا -المعنى- يدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)؛ لأن الصحة والفراغ لا تدومان للإنسان، فيلزم أن يستغل الإنسان صحته وفراغه، وهذا من أعظم الرزق، ومن أعظم النعم التي ينعم بها الرب جلَّ وعلا على عبده، فينبغي عليه أن يستعملهما في اكتساب الطاعات والأجور وتحصيل الباقيات الصالحات التي تبقى عند الله جلَّ وعلا.