[أركان الإيمان بالقدر]
فعلى هذا يتبين لنا أن الإيمان بالقدر لابد منه، ومن لم يؤمن بالقدر فليس بمؤمن، بل ليس بمسلم، فقد يكون كافراً وذكرنا أن أركان الإيمان بالقدر أربعة: الركن الأول: أن يؤمن الإنسان بصفة العلم لله لأنه عليم بكل شيء، وعلمه صفة ملازمة له جل وعلا، لا يجوز أن يكون في وقت من الأوقات سابقاً ولا لاحقاً حالياً من شيء من العلم تعالى الله وتقدس، وعلمه جل وعلا لا يزداد بوجود المعلومات شيئاً لم يكن له، وهو عليم بكل شيء، يعلم الأشياء التي لم توجد أنها ستوجد على صفة كذا في وقت كذا، فتوجد على وفق علمه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، فمن أنكر علم الله جل وعلا فهو كافر بالله جل وعلا، ولا ينفعه العمل مهما عمل.
الركن الثاني: الكتابة أن الله كتب كل ما سيقع -كما سيأتي من حديث عبادة - إلى قيام الساعة، سواء أكان من عمل الإنسان، أم من حركات الشجر وعدد أوراقها وما سقط منها، وغير ذلك، فما تسقط من حبة في البر ولا في البحر، ولا تسقط ورقة من شجرة إلا في كتاب مبين كتبه الله جل وعلا، حتى تحركات وتخلجات عروق الإنسان، فكل حركة وكل سكون بعد الحركة وكل وجود وكل عدم كله مكتوب بلا زيادة ولا نقص.
فالكتابة هي كتابة العلم الذي علمه الله في الخلق، وسيأتي ما المقصود بها في حديث عبادة؛ لأنه نص عليها.
الركن الثالث: مشيئة الله لأنه هو رب الخلق كلهم، فلا يقع في ملكه -في الكون كله- شيء إلا بمشيئته، فما شاء كان على حسب مشيئته، وما لم يشأ لم يكن، والذي لا وجود له هو الشيء الذي لم يشأ وجوده جل وعلا.
الركن الرابع: أن الله هو الخالق وحده، وما سواه مخلوق، فكل موجود من الحيوانات ومن بني آدم والملائكة وغيرهم كله مخلوق لله جل وعلا، وكذلك أفعال بني آدم مخلوقة لله جل وعلا؛ لأنه خلق الذات وخلق صفتها، ولكن جعل للعاقل قدرة وإرادة، ووكل إليه ما أمره به فيفعله، وما نهاه عنه فيتركه، وجعل ذلك إليه، والله يعلم أنه سيفعل أو لا يفعل؛ لأنه لا يخفى عليه شيء، ولهذا كتب فعله -سواء طاعة أو معصية- لعلم الله الأزلي المحيط بكل شيء.
فإذا فهم الإنسان هذه الأمور الأربعة انحلت عنه إشكالات كثيرة ضل بها كثير من الناس كالقدرية، وأهل القدر قسمان: قسم نفوا القدر، وقسم أثبتوه وغلوا في إثباته حتى سلبوا الإنسان من قدرته واختياره، فجعلوا الإنسان بمنزلة الريشة التي تكون في مهب الريح تصرفها الريح كيف تشاء، فجعلوه كالآلة لا اختيار له ولا قدرة، وهؤلاء أشر من الأولين، وكلاهما شر وضلال وانحراف عن الحق، وكلاهما لم يفهم هذه الأمور الأربعة، وقالوا على حسب ما أدركته أنظارهم وعقولهم؛ إذ أعرضوا عن فهم كتاب الله وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فضلوا.
فالمسألة عظيمة كبيرة؛ إذ لا يزال كثير من المسلمين تشكل عليه أمور فيها، مع أنها واضحة وجليه -والحمد لله- وليس فيها إشكال، والكفار اليوم كاليهود والنصارى يريدون أن يشككوا المسلمين ويخبروهم بأنهم عجزة متأخرون، ويقولون: السبب في ذلك أنهم يؤمنون بالقدر، فكلما وقع لهم شيء قالوا: هذا قدر فركنوا إلى الدعة والخمول وعدم العمل، فجعلوا إيمانهم بالقدر هو السبب في تأخرهم.
فهذا كذب، فالمؤمن يؤمن بالقدر، وهو مع ذلك يعمل، بل إيمانه بالقدر يزيد في عمله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فلهذا صاروا يجتهدون في العمل، حتى قال بعضهم: لو كشف لي عن الأمور المغيبة -يعني لو رأيت الجنة والنار- ما استطعت أن أزداد عملاً؛ لأنه جاء بكل ما يستطيع، وهؤلاء هم الذين وصلوا إلى عين اليقين -فأيقنوا يقيناً صادقاً، وهذا هو إيمان الصحابة رضوان الله عليهم.
ثم ذكر حديث عبادة -وقد اختصره المؤلف- وله روايات متعددة، وفي بعضها أنه دخل عليه ابنه وهو في مرض الموت وقد ظهرت عليه علامات الموت، فلما رآه ابنه قال: يا أبت! أوصني.
عند ذلك قال: أجلسوني -لأنه سيجتهد في وصية ابنه- ثم قال له: يا بني! وذكر ما ذكره المؤلف.
وقوله في هذا: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم قال: اكتب.
قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).
القلم لا ندري ما هو، إلا أنه قلم مثل الأقلام التي يكتب بها، أما كونه من نوع معين وكقول ابن عباس: إنه من نور، أو من غير ذلك، فالله أعلم، ثم إنه كتب بقدرة الله، مثل قوله للشيء: (كن) فيكون، فهي كتابة بقدرة الله جل وعلا الذي يعلم الأشياء كلها، وإلا فالقلم لا يعلم الأشياء، ولا يعلم المستقبلات، ولا يعلم الماضيات، ولا يعلم شيئاً، وإنما الكتابة وقعت بقدرة الله جل وعلا بهذا القلم، فقوله جل وعلا للقلم: (اكتب)، كقوله جل وعلا للسماء: (أمطري)، أو لمن كان ميتاً وأراد إحياءه: (كن)، فقوله: (كن)، فيكون كما أراد جل وعلا.
أيتصور أن القلم كتب بنفسه، وأنه علم الأشياء فكتبها؟ القلم لا علم عنده، وإنما هذا كتابة بقدرة الله جل وعلا، ولكن هذه القدرة جعلها الله في القلم، ثم الذي يكتب فيه هو اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ ليس محل الكتابة، وسمي لوحاً لأنه تلوح فيه الكتابة وتظهر وينظر إليها، وهو في مكان محفوظ لا يطلع عليه إلا رب العالمين جل وعلا، لا أحد يطلع عليه من الخلق، كما أخبر جل وعلا عن ذلك.
فالله جل وعلا يقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:١٢ - ١٥] إلى أن قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:١٧ - ٢٢] محفوظ عن ابتداع الخلق وعن الزيادة والنقص فيه، لا زيادة ولا نقص، فالله جل وعلا حفظه في المكان الذي يعلمه، فلهذا إذا أمر الملك بنفخ الروح في الجنين الذي في رحم المرأة وقال له: اكتب كذا وكذا فهذه الكتابة تكون بيد الملك، ولكنها منقولة مما في اللوح المحفوظ.