للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر]

قال المصنف رحمه الله تعالى: وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:١٨].

أخبر تعالى: أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم].

معلوم أن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، فإنها نزلت في غزوة تبوك في السنة التاسعة، وفيها ما هو متقدم نزوله، فبعض آياتها نزل متقدماً، وبعضها نزلت متأخرة، ثم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضعها في المكان المناسب، فالمشركون افتخروا بأنهم أهل البيت وأنهم عُمَّاره، أي: يقومون على صيانته ونظافته وإكرام من يثب إليهم، فيقولون: هذا أفضل من كونكم اتبعتم الرسول.

فأخبر الله جل وعلا أن عمارة المسجد لا تحصل من المشرك، وإنما تحصل ممن آمن بالله واليوم الآخر، أما المشرك الكافر فعمله (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً فإذا جاءه لم يجده شيئاً)، أو: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨] لا يقدر عليه، وإذا عمل شيء فإن الله يجعله هباءً منثوراً؛ لأن من شرط قبول العمل أن يكون العامل مؤمناً: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه:١١٢]، أما إذا كان كافراً فأي عمل يعمله فإنه لا ينفع ولا يجدي؛ لأن الأساس فاسد.

وكذلك يجب أن يكون العمل على وفق أمر الله، لا على هوى النفس، أو كونه وجد آباءه يعظمون هذا الشيء ويعملونه، فصار يعمله ويفتخر به، هذا لا يجدي شيئاً ولا ينفع.

وأخبر جل وعلا أن الذي يعمر المساجد هو المؤمن، وعمارتها بالطاعة والتقوى، وبعبادة الله فيها بالتوحيد وإخلاص العمل له.

هذه عمارتها.

ولهذا كان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم -في وقته- أعمدته جذوع النخل، وسقفه جريد النخل، وإذا جاء المطر يغرق المسجد، ثم يسجد الرسول صلى الله عليه وسلم على الماء والطين، ويصبح أثره في وجهه، وهو معمور أعظم العمارة؛ لأنه يعبد فيه الله جل وعلا، ويطاع ويمتثل أمره، وينتهى عن نهيه.

إذاً: المقصود بعمارة المساجد: أن يطاع الله فيها، وتقام شعائر الدين، وينطلق منها الجهاد، أما المشركون فليسوا أهلاً لذلك، ولو قدر أنهم يبنونها، أو يقدمون نفعاً لمن يقصدها أو ما أشبه ذلك كما كانت قريش تفعل، فقد كانوا يسقون الحجيج، ويقدمون لهم الكسوة ويعملون في خدمتهم، ولذلك قالوا: إنهم أفضل من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية نزلت لما افتخروا بذلك، وأخبر الله جل وعلا أن هذا لا يحصل منهم، وأنه ليس كما يقولون، وإنما عمارة المساجد تكون لمن آمن بالله واليوم الآخر، واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وسواء كانت العمارة عمارة بالبناء وصيانة المساجد أو بالطاعة، فكلها مما يحبه الله ويأمر به، ولهذا جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، يعني وإن كان صغيراً يبني الله جل وعلا له بيتاً في الجنة، ومعلوم أنه من شرط العمل أن يكون خالصاً لله، وأن يكون على وفق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كل عمل لابد له من هذين الشرطين حتى ينفع، أما إذا دخل في العمل إرادة الدنيا أو وجوه الناس أو غير ذلك فهو لا ينفع ولا يفيد عند الله.

فإذاً: العمارة تشمل عمارة المسجد بطاعة الله جل وعلا، وتشمل عمارته الفعلية بالبناء والصيانة، وهذه كلها من عمارة المساجد، وجاء في الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)، أي: يتردد عليها لأداء العبادة لله جل وعلا فيها.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم، وأخلصوا له الخشية دون من سواه، ثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل فعمله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:٣٩]، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨]، وما كان كذلك فالعدم خير منه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة].

إذا قيل: الإيمان المطلق فمعناه: الكامل، وإذا قيل مطلق الإيمان، فهو: الإيمان الناقص.

فالكمال المطلق للإيمان المطلق، بمعني أنه يشمل جميع فعل الواجبات والمستحبات، وترك جميع المحرمات مع المكروهات، وهذا هو الصواب عند أهل السنة: بأنه لابد من القول باللسان، ولابد من عقيدة القلب -أعني: علم القلب ومعرفته- ولابد من عمل الجوارح.

كل هذا من الإيمان، فالإيمان إذاً يكون مركباً من أمور ثلاثة: عمل اللسان الذي هو قول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولا يكون الإنسان مؤمناً إلا بهذا، هذا مبدأ الإيمان.

ثم لابد أن يعرف معنى هذه الكلمة، فيعتقد قلبه ما دلت عليه، ثم لابد أن ينبعث من القلب ما يدعوه إلى فعل الواجبات، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم وغير ذلك.

أما أن يأتي بقول: (لا إله إلا الله)، ثم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من الواجبات؛ فهذا لا يكون مؤمناً؛ أو أنه قال بلسانه، وقلبه يعتقد خلاف ذلك؛ فهذا يكون منافقاً، والمنافق يكون في الدرك الأسفل من النار.

فمقصود الشرع في ذلك: أن يبين أن قول أهل البدع مثل قول المرجئة: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، أو أنه قول اللسان فقط، باطل، أما الأول: فيلزم منه أن يكون الشيطان مؤمناً، لأن الشيطان يعلم ويعرف ربه، ولكنه كفر بعد المعرفة، فليست معرفة القلب كافية ولا نافعة إلا إذا وافق معرفة القلب العمل والقول، وأما الثاني: فيلزم منه إيمان المنافقين.

فإذاً: الأعمال من الإيمان، والأعمال يدخل فيها قول اللسان من الشهادة ومن الذكر والتلاوة والتسبيح والتكبير، وأعمال الجوارح وجميع الأعمال، وكلها إيمان، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣]، والإيمان هنا المقصود به الصلاة التي صليت إلى الشام، لا يضيعها الله عليكم بل يجزيكم بها.

قال الشارح: [قوله: (ولم يخش إلا الله)، قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.

وقال ابن القيم رحمه الله: الخوف عبودية القلب؛ فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب.

قوله: {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:١٨]، قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (يقول: إن أولئك هم المهتدون، وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة)].

السبب في هذا: أن (عسى) من أدوات الترجي، فعسى أن يكون كذا، يعني: يرجى أن يكون كذا، وهذا يكون لمن لا يعرف العواقب، أما رب العالمين جل وعلا فإنه لا يخفى عليه شيء، فإذا جاءت عسى في كلامه فمعناها أنها واقعة، ولهذا قالوا: عسى من الله واجبة، وعسى من الله حق، يعني إذا قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩]، فسوف يبعثه المقام المحمود، فهو خبر، وليست على بابها من الترجي؛ لأن الله جل وعلا يعلم ذلك ويخبر عما سيقع، إلا أن الكلام جاء على أسلوب العرب؛ لأنه بلغتهم، فخاطبهم بلغتهم التي يعرفونها، وقد علم المقصود.

فالله جل وعلا يعلم ما يكون، وأنه سوف يكون على كذا وكذا، ولا يمكن أن يتجاوز علمه شيء، ولهذا يخبرنا جل وعلا عن الشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون، كما قال جل وعلا عن الكفار الذين في النار، حينما يتمنون، أنهم يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:٢٧]، يقولون هذا وهم في النار، ليتنا نرد إلى الدنيا فنؤمن بآيات ربنا وبرسله، ونتقي ونعمل العمل الصالح، فماذا قال الله جل وعلا؟ قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:٢٨]، وهذا لن يحصل، ولكن لو قدر أنه يحصل فسوف يكونون على كفرهم السابق، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، ولهذا السبب قالوا: إن (عسى) من الله واجبة.

قال الشارح: [وفي الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [التوبة:١٨])، رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري].