للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (وتقطعت بهم الأسباب)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس في قول الله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:١٦٦]، قال: المودة] الأسباب التي تتقطع بهم يوم القيامة هي المودة، ومعلوم أن الناس ليس معهم حينئذ إلا أسباب العمل فقط، أما الأموال والمناصرات في الأمور التي تكون في الدنيا فهي منتهية، وكل الخلق يأتون الله فرادى كأنهم خرجوا من بطون أمهاتهم، لا كسوة ولا نعال ولا طعام ولا أي شيء، يخرجون هكذا من بطون القبور عراة حفاة غرلاً، ولهذا يقول الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤]، فأين شركاؤكم؟ وأين نصراؤكم؟ وأين أولياؤكم؟ كل واحد ليس معه إلا عمله: إن كان من الفجار والكفار فعمله كما قال الله جل وعلا: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:٣٩]، وقوله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨]، الرماد إذا ذري في اليوم العاصف هل يمسك منه شيء؟! هذا دليل على أن المودة والإخاء إذا كان على غير طاعة الله فهي الأسباب التي تتقطع بهم، كما قال الله جل وعلا عن خليله إبراهيم عليه السلام: ((إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا))، الأوثان التي يتولونها ويعبدونها {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:٢٥] هذه هي الحقيقة التي تكون يوم القيامة، وكما قال الله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [القصص:٦٢]، ماذا يقولون؟ يقولون: (ضلوا عنا) يعني ذهبوا فما ندري أين هم، ولا يوجد شركاء ينصرونهم، والشركاء هم الأولياء الذين يزعمون أنهم يتولونهم في الدنيا، ويقول جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:٥] يعني: الأموات، فهم الذين لا يستجيبون لأحد إلى يوم القيامة، وكذا الغائبين.

{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٦] يعني: يكفرون بهم ويقولون: كفرنا بقولكم وبدعوتكم وبعبادتكم، وتبرأنا إلى الله منكم، فماذا تكون حالتهم عندئذٍ؟ الذين كانوا يظنون أنهم سينفعونهم وسيشفعون لهم هم أسوء حالاً منهم، وهذه هي المودة والأسباب التي تتقطع، يقول ابن عباس في الأسباب: هي المودة، يعني: المودة التي على غير طاعة الله، كل مودة على معصية أو على غير طاعة الله فإنها تنقطع وتنتهي بل تكون عذاباً ووبالاً على أصحابها، أما الإخاء في الله والموالاة في الله فهذا الذي ينفع، كما قال جل وعلا: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٦٧]، كل خليل عدو لخليله إذا كان في غير طاعة الله إلا المتقي الذي يحب لله ويوالي في الله؛ فإن هذا هو الذي يظله الله جل وعلا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: اثنان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه).

هذا هو الذي يفيد وينفع أما ما عدا ذلك من المعاداة والموالاة فإنها تكون عداوة وبغضاء وحسرة وندامة، حتى إن الله أخبرنا بالحقائق التي تكون؛ فالداعي لهؤلاء يصبح خطيباً فيهم إذا اجتمعوا في جهنم، يقوم الشيطان يخطب فيهم بعد أن استقر أهل الجنة بالجنة، وأهل النار بالنار، يقوم الشيطان خطيباً في أصحابه وأتباعه وأوليائه فيقول في خطبته التي أخبرنا الله بها: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:٢٢] أي: ليس عندي حجة ولا برهان لما دعوتكم، إنما هي مجرد دعوى {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢]، يعني: مجرد دعوى خالية من الدليل، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:٢٢]، أرجعوا اللوم لأنفسكم؛ لأني ليس لي عليكم سلطان أقهركم به، ولكن أنتم لما سمعتم الدعوة استجبتم لها، وانقدتم إليها طواعية.

ثم يقول: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:٢٢] يعني: ما أنا بمغيثكم ولا مغني عنكم شيئاً {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:٢٢] ولا أنتم تنفعوني، فكل واحد لا ينفع الثاني، ثم يقول: {إني كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢]، يكفر بطاعتهم وعباداتهم، ولهذا يقول الله في مثل الضال الكافر: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر:١٦]، وهذا هو الواقع، ويوم القيامة يتبرأ الأول من الثاني ويلعن كل واحد الآخر، ومع ذلك يقرن كل واحد مع شيطانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:٢٢] يعني: كل واحد يزوج مع نظيره ويقرن معه حتى يتم العذاب لهما، وينظر إلى عدوه وبغيضه لأنه يصبح أعدى الأعداء وأبغض الأشياء إليه، فيقرن معه حتى يتم العذاب لهما بالحسرة؛ لأن الشر والخبث كله يجمع في جهنم.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:١٦٦]، قال: المودة، هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.

قوله: (قال: المودة) أي: التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها].

يعني: المودة على معاصي الله هي التي تتقطع بهم وتخونهم أحوج ما كانوا إليها، وتصبح عليهم وبالاً.