للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تدعون من دون الله)]

قال الشارح: [قوله: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، رفعه: إزالته بعد نزوله، ودفعه: منعه قبل نزوله قال: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:٣٨]، قال ابن كثير: أي: لا تستطيع شيئاً من الأمر {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:٣٨] أي: الله كافي من توكل عليه {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:٣٨] كما قال هود عليه السلام حين قال قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٤ - ٥٦].

قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها].

هكذا المشركون يخوفون أهل التوحيد وأهل الإيمان بآلهتهم؛ لهذا تجد الذي يتعلق بالأولياء أو بالمقبورين يسلك هذا المسلك، وإذا قيل له: لا تدع هؤلاء! قال: هل أنت لا تخاف من الصالحين أن يصيبوك بمرض أو بألم أو بشيء لأنك تعاديهم وتبغضهم؟ فهذا كقول قوم هود له: ((إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)) يعني: أنه أصابك بعض الآلهة بجنون أو بخبل فأصبحت تدعونا أن نترك عبادة هذه الآلهة، فقال مجيباً لهم: ((إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ)) أي: مما تشركون من دون الله، ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)) يعني: اجتمعوا أنتم وآلهتكم واستعينوا بمن تريدون فوجهوا لي الشيء الذي تستطيعونه من الضر أو الجنون أو غير ذلك، فلن تصلوا إليّ؛ لأني ((تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، فهذا شأن الموحد المؤمن الذي لا يتعلق إلا بالله جل وعلا، أما المشرك فإنه يخاف من المخلوق الضعيف، بل من الميت الرميم المرتهن في قبره بعمله.

والميت نفسه مرتهنة {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:٣٨] رهينة لا تستطيع أن تعمل شيئاً أو تتصرف أو تذهب أو تأتي أو تجيء، فإن كان من أهل السعادة، ومن أهل التقى؛ فهي منعمة في قبره، وإن كان من أهل الشقاوة فهو مشغول بالعذاب، وكلاهما مشغول عمن يناديه ويدعوه.

أما إذا كانت أحجاراً أو أشجاراً فالأمر في ذلك واضح وجلي، وقد علمنا أن هؤلاء الذي يدعون الآلهة من دون الله ما كانوا يعتقدون أنها تتصرف بالعطاء والمنع وإنزال المطر وإنبات النبات ودفع العدو، وإنما كانوا يتبركون بها، ويتخذونها شفعاء عند الله.

ومن اعتقد أن الأموات يتصرفون ويستطيعون أن يأتوا بالخير ويمنعوا العدو؛ فقد ضل في عقله بعد ضلاله في دينه، فأصبح لا عقل له ولا دين، وهذا ما كان أبو جهل وأبو لهب وأشباههما يعتقدونه، بل عقولهم تمنعهم من ذلك.

فعلى هذا فدعوة غير الله جل وعلا من أي نوع كانت هي ضلال وخروج عن الصراط المستقيم الذي بعث به رسل الله، فكل رسول بعث بالإنذار من هذا الشيء، والتحذير منه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، كل رسول يقول هذا، وهذا هو معنى لا إله إلا الله التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يقاتل الناس عليها حتى يذعنوا لها ويقولوها.

وفي هذا إبطال لدعوة هؤلاء بالأمثلة والتقديرات والإيضاح الذي يقرون به، ولا يستطيعون إنكاره، فيكون هذا إلزاماً لهم في إبطال معبوداتهم، ووجوب عبادة الله وحده، ومع هذا الإلزام وهذا الإيضاح الجلي عاندوا وكابروا، وامتنعوا من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوا على شركهم مع علمهم العلم اليقيني أنه ضلال، وأن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر.